عجبا لكل من يتجاسر على أولياء نعمته الذين محوا أميته ، وأنقذوه من الجهل

صدق الشاعر القائل لمن يجازي الإحسان بالسوء :

فيا عجبا لمن ربيت طفلا            ألقمه بأطراف البنـــــان

أعلمه الرماية كل يـــــوم            فلمّا اشتد ساعده رماني

وكم علمته نظم القوافـــي           فلما قال قافية هجانــــي

أعلمه الفتوة كل وقــــــت           فلما طرّ شاربه جفانــي

مضمون هذه الأبيات هو  ذكر الإحسان تربية على وجه التحديد ، وهو ينطبق على كل من يقابل إحسان من رباه وعلمه بالجحود و بالإساءة ، وهو أكثر انطباقا على كل من دخلوا المؤسسات التربوية وهم صغار لا يعلمون شيئا ، فتعهدهم رجال ونساء التربية بالعناية والرعاية ، ومحوا أميتهم، وأنقذوهم من الجهل المذل ،ومن الضياع، لكنهم لما كبروا وتقلدوا المناصب، تنكروا لإحسانهم وفضلهم عليهم، بل تجاوزوا في ذلك حدود الوقاحة، والخسة والدناءة ، فأساءوا إليهم  قولا وفعلا  دون أن تحضرهم لحظة كانوا صغارا ضعافا لا يفقهون شيئا، وهم بين أيد أمينة ترعاهم  برفق، ولطف، وحنان، لا يختلف عن رفق، ولطف، وحنان آبائهم وأمهاتهم .

والأكثر  وقاحة ، وخسة ودناءة، أن يكون من ينكر فضلهم وإحسانهم ممن يوكل إليهم أمر تدبير شأن وزارتهم ، فيمعنون في إذلالهم بغمطهم حقوقهم ، ومستحقاتهم مقابل ما يبذلونه من جهود تبخس بخسا قبيحا ، ويطلقون ألسنهم بالإساءة إليهم ، ويتمادون في إهانتهم ،وتهديدهم ، وحين يتظاهرون مطالبين برفع الحيف عنهم، يكلونهم إلى قوات مكافحة الشغب لتنال من أجسادهم بهراواتها ،متنكرة هي الأخرى لفضلهم وإحسانهم مع أنهم أولياء نعمها .

وعندما نتأمل الأبيات الشعرية التي تصدرت هذا المقال، نجدها تعرض مقابل كل إحسان تربوي  سابق إساءة متأخرة ممن طالهم ، الشيء الذي يثير العجب ، ذلك أن الإحسان تربية وتعليما، يقابله لدى من يجحدونه من المتعلمين  يوم كانوا صغارا على اختلاف وظائفهم وهم كبار، يكون  عبارة عن  اعتداء، وهجاء، وجفاء . أو ليس من يوجد اليوم على رأس الوزارة الوصيةعلى الشأن التربوي عندنا ، وبطانتهم المركزية، والجهوية ، والإقليمية،  تترجم مواقفهم  وأقولهم هذه الثلاث المستقبحة، وهي سبة ومعرة ؟

إن لرجال ونساء التربية  على الأمة كلها أفضال لا ينكرها إلا من فسدت تربيته بعد الذي ربوه عليه من استقامة ، وكان سبب فسادها أنه رآه استغنى، فطغى .

وإذا كان  لمرتب في هذا الوطن أن يعلو أو يفوق  كل المرتبات في مختلف الوزارات والقطاعات ، فهو مرتب المرابطين في المؤسسات التربوية الذين يحاربون الجهل والأمية ، ويمدون كل القطاعات بمن يُعدّونهم من أطر مختلفة،  ما كان لها أن تستفيد من خبراتهم لولا من أعدوهم لذلك إعدادا .

 ولن أنسى يوم واجهت أحد رجال السلطة  جمعتني به الظروف ، وكان ممن  يعتبرون قطاع التربية والتعليم قطاعا مستهلكا فقط مع التنكر الصارخ والمثير للسخرية  لعطائها ، فكان ردي عليه الرد المفحم حين قارنت بين رجال ونساء التربية  عندنا ، وبين لاعبي كرة القدم عند غيرنا ، فهؤلاء تستفيد أنديتهم التي تربوا فيها أو احتضنتهم من عائدات معتبرة، تعد بالملايين حين تعيرهم للعب في أندية أخرى ، بينما تستفيد كل الوزارات والقطاعات العمومية والخصوصية عندنا  ممن تعلمهم المؤسسات التربوية و تعدهم ، وتؤهلهم  دون أن يعود عليها بذلك بمقابل . والمؤسف المحزن أن كثيرا ممن استفادوا من غلة قطاع التربية يسبون ملته.

وقد يمر كثير من استفادوا بمن لهم عليهم فضل انقاذهم من الجهل والأمية ، متجاهلين متنكرين لهم  ، وربما ساخرين  منهم ،أو متندرين أو شامتين بهم ، وقد أرهقتهم السنون أو أنهكتهم العلل ، ويبخلون بكل خسة ودناءة عليه بمجرد تحية عابرة يلقونها عليهم ، وهو أقل الشكر ، ولا يذكرون لهم فضلا ، وفي المقابل يذكرون لقطات من تأديبهم لهم على ما كان منهم من تكاسل ، وتراخ في التعلم والتحصيل ، أو مما كان منهم من سوء سلوكهم ، وقد يسبونهم، وقد يغتنمون الفرص للانتقام منهم إذا ما طوحت بهم الظروف ، ووقفوا بين أيديهم لتقضى بعض حقوقهم ، وقد لا يشفع لهم ما أسدوه من معروف إذا ما وقعوا في أخطاء أو استوجبوا مخالفات قد تغفر لغيرهم من ذوي الجاه ،والمال، والسلطة  وهم ينظرون ، ولا تغفر لهم ، الشيء الذي يحز في نفوسهم .

ولن أنهي هذا المقال دون أن أذكر ما دار يوما بيني وبين أحد المحامين، وكلنا كان يمتطي سيارته الواقفة عند إشارة  منع المرور ، وكانت سيارتي خلف سيارته ، فأقلعت عند إشارة الضوء الأخضر لكن تعطلت و توقفت فجأة فتسبب وقوفها في صدم سيارتي لها  مضطرا ، وكانت سيارتي هي المتضررة ، فنزل بكل وقاحة يسألني : هل أنا يشر أم حيوان  ؟ فأجبتها : ألا ترى أن لي لحية ، وليس لي ذيل أو مخالب ، وأنك بسؤالك هذا تستحق ألا تكون بشرا  بل حيوانا ؟ فتدخل أحد رجال السلطة  وكان مرا بمكان الحادثة، وهو من معارفه  ليلومني، وقد  اقتحمتني عينه المنخدعة فضللته عباءتي وطاقيتي  قائلا : اعلم أنك تخاطب أستاذا ، فكان ردي عليه : إنني أنا الأستاذ حقا ، وما هو إلا متطفل على الأستاذية ،لأن الأحق بها هو من يعلم لا من يرافع ، وينتشي بمن يصفه بها مجاملة  . وبادرني المحامي بالقول، وهو يعرفني جيدا : ما الذي تعلّمه ؟ إنك تعلم كان وأخواتها ، فأجبته للتو إنك تعيش بفضل من علمك كان وأخواتها ، وأردفت ذلك بكلام أربأ بنفسي أن أعيده احتراما للسادة والسيدات المحامين والمحاميات، المحترمين  والمحترمات ، ولي  منهم أصدقاء فضلاء كثر، مع أن ما قلته لمن شبهني بالحيوان  بدءا بالإساءة  يخصه شخصيا ، وتبقى المهمة النبيلة التي يزاولها  منزهة عن سلوكه المنحط  تنزيها عندي .

وآخر الكلام ، وليس آخره،  وهو عود على بدء ، وبصوت واحد يردده رجال ونساء التربية، ولهم  مني كل الاحترام والتقدير والثناء ، وأنا منهم ، وهم مني  ،أكرر ما بدأت  به هذا المقال شعرا ليسمعه ويعيه  وزير التربية  عندنا  هو وبطانته في المركز، والجهات، والأقاليم ممن يؤيدونه في الجسارة على المربين والمربيات ، وليسمعه أيضا كل من يقف في صفه مشاركا في ظلمه لهم :

فيا عجبا لمن ربيت طفلا            ألقمه بأطراف البنـــــان

أعلمه الرماية كل يـــــوم            فلمّا اشتد ساعده رماني

وكم علمته نظم القوافـــي           فلما قال قافية هجانــــي

أعلمه الفتوة كل وقــــــت           فلما طرّ شاربه جفانــي 

وسوم: العدد 1060