فقدان تداعي أعضاء جسم الأمة الإسلامية لعضو يشتكي من ظلم من يحتل أرضه ويستبيح بيضته

من الأحاديث النبوية الشريفة الشهيرة  التي يحفظها المسلمون عن ظهر قلب منذ نعومة أظافرهم ، حديث مدرج في المقررات الدراسية في بلاد المسلمين  تحفظه الناشئة عن ظهر قلب ، وتستظهره ، ويُقوّم حفظها له، ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ، ومعلوم أن المؤمنين لا يكونون إلا أمة لقول الله تعالى : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )) ، وبمقتضى هذه الآية الكريمة ،لا يمكنهم أن يكونوا أشتاتا ، وهم باجتماعهم أشبه بجسم الإنسان المكون من أعضاء متناسقة ومتفاعلة، يغشاها الإحساس الواحد الذي يلم بالعضوالواحد منها . ولقد دقق رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف نوع التفاعل الذي يكون بين المؤمنين ، وهو مودة ، ورحمة ، وعطف . ولقد ورد ذكر هذه المشاعر في الحديث الشريف  بصيغة التفاعل الدالة على المشاركة التي هي أخذ وعطاء، بحيث يستفيد المتشاركون فيها أخذا وعطاء على قدم المساواة . أما عاطفة المودة ، فهي أعلى درجة  المحبة  وخالصها غير مشوبة بما يفسدها ، وهي إصغاء القلوب، وميلها إلى المحبوب . وأما عاطفة الرحمة ، فهي أعلى درجة الشفقة على المرحوم، مع الألم والتوجع  لما يمسه من سوء . وأما عاطفة التعاطف ، فهي عبارة عن وئام ،ورقة، ولين جانب ، وأصلها الانعطاف، وهو الميل والانجذاب . وهذه العواطف الثلاث متناغمة فيما بينها تنوب الواحدة منها عن الأخرى، لأنه لا مودة دون رحمة ودون عطف ، ويصح العكس أيضا . و لقد  ورد أيضا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشكوى أو الشكاة التي تقتضي ضرورة التداعي ،وهو استجابة لها ، ويكون بين مجموعة  من الضروري أن يكون بين أفرادها تفاعل ، ولهذا يقال تداعى الناس إذا اجتمعوا لأمر يجمعهم ، كما يقال تداعت الأفكار إذا تواردت ، واستدعى بعضها بعضا . وقد يكون التداعي في المسرات ، كما يكون في المصائب . والتداعي الوارد في الحديث النبوي الشريف ،هو تداع  في حال المصاب الداعي إلى الإشفاق . ولو حاول البلغاء والفصحاء شعراؤهم، وكتابهم، وخطباؤهم التعبير عن طبيعة العواطف التي تجمع بين المؤمنين ، ما  بلغو شأو رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وقد أوتي مجامع الكلم . ومن ذا الذي يستطيع أن يمثل تمثيله  الرائع لوحدة آصرة  تجمع بين أفراد الأمة المسلمة  من خلال أمر كل الناس يعرفه حق المعرفة، لأنهم كلهم لهم أجساد تعتري بعض أعضائها العلل المسببة للألم ، وهم حينئذ أدرى بما يترتب عن ذلك من معاناة تطال كل الأعضاء دون استثناء، وتكون  النتيجة حمى عارمة وسهر .

هذا الحديث النبوي المشهور الذي يحفظه عامة المسلمين وخاصتهم ، وقد يتفنن علماؤهم في شروحه ، لا أثر له اليوم في حياة الأمة، وقد اشتكى عضو من أهم أعضائها ، وإن شئنا  قلنا إنه بمنزلة القلب النابض فيها ، لأن الأمر يتعلق بأرض الإسراء والمعراج حيث أولى القبلتين ،وثالث الحرمين الشريفين ، ولم تتداع له الأمة  لا بسهر، ولا بحمى ،كما تتداعى أعضاء الجسد الآدمي  حين يشتكي منه عضو . وبيان فقدان التداعي في الأمة اليوم ، هو ما تنقله لنا وسائل إعلامها حيث انشغل معظمها بتوافه الأمور من  سهرات طرب وغناء ، وأفلام ومسلسلات ، ومباريات رياضية ...إلى غير ذلك من اللهو العابث، وأقيمت في كثير من البلاد الإسلامية احتفالات بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة ، وزينت المحلات التجارية فيها بأشجار الميلاد المرصعة بالأضواء ، وعرضت فيها  أنواع الحلويات جريا على عادة أهل الصليب ... ولقد حدث هذا وقوات الاحتلال الصهيوني الحاقد  مدعومة بقوى صليبية  حاقدة  تدك بطائراتها الحربية، وبوارجها، ومدافعها ، ودباباتها ، ومسيراتها المنازل فوق رؤوس المسلمين في قطاع غزة ، وتدفنهم أمواتا وأحياء تحت الأنقاض، دون أن يتداعى الساهرون في سهراتهم ليلة رأس السنة لشكاتهم،  بل تداعوا لاحتفالات الصليبيين وهم  يبيدون إخوانهم إبادة جماعية لا نظير لها في التاريخ .

وباستثناء بعض وسائل الاعلام في بلاد الإسلام ، والمعدودة على رؤوس الأصابع ، لم يبال معظمها بمعاناة  الشعب الفلسطيني المسلم، بالرغم من شكاته المتكررة التي تنقلها إلى عموم الأمة الإسلامية  بعض تلك  الوسائل التي ندبت نفسها مشكورة مأجورة  لإيصالها عبر المعمور، لتقيم الحجة على  أمة  تخدر حس معظما في بلاد الإسلام . ومما يحز في القلب ويؤلمه شديد الألم  أن الدعوات لمقاطعة بضائع وسلع العدو الصهيوني ومن يوالونه ، قوبلت بالتجاهل التام ، وأقبلت الأمة عليها بنهم ، واستلذتها ، وزاد الطلب عليها  في هذا الظرف بالذات ، وفي ذلك ما فيه من الشماتة الصارخة  بالإخوة الأشقاء الذين نزل به مصاب جلل .  ومما زاد القلب ألما ، وحسرة ، ولوعة ، وجوى أن البلاد الإسلامية لم تعلن مجرد حداد ليوم واحد  أو مجرد دقيقة حزن وصمت على أرواح الشهداء ، ولا هي أقامت صلاة الغائب عليهم ، وذلك أضعف الإيمان ، وأضعف التداعي لشكاتهم . ومن أخس الشماتة بالمقاومة الفلسطينية وبشهدائها أن يصرح بعض السفهاء مما يحسبون على الإعلام والفكر بتداعيهم وتضامنهم مع العدو الصهيوني ، وقد بلغت الخسة ببعضهم أن رفعوا شعار " كلنا إسرائيليون " دون أن يندى لهم جبين . وأشنع من ذلك ما تداولته بعض وسئل التواصل تحت عنوان : خبر عاجل  يهم المسلمين ، ويتعلق الأمر بما وصف بمجودات جبارة ومساع حثيثة عن كثب بذلها بلد خليجي بأمر من قيادته، وبحضوركبار القوم  من أجل إبرام صلح بين مطربتين كانت بينهما خصومة وقطيعة . فيا له  من عار ، أفي  مثل هذا الظرف يحدث مثل هذا ؟ والواجب الديني ، وواجب الأخوة الإسلامية هو التداعي لشكاة المستضعفين في غزة ، وهم يطلبون جرعة ماء ، ورغيف خبز ، وجرعة دواء ، وقنينة غاز أو جذوة تدفئهم ، أولحظة يتوقف فيها القصف عليهم من أجل دفن ضحاياهم ، وإسعاف جرحاهم ومصابيهم . ولو شاءت دول الخليج  ، وهي قادرة على ذلك ،وقد حباها الله  تعالى بخيرات  في باطن أرضها ، وبأخرى تجبى إليها، لخلصت أولئك المستضعفين مما هم فيه من شدة  بلاء ، ولاشترت سلامهم، وأمنهم ، وحريتهم بالمال مهما غلا ، ولخلّصت  به المسجد الأقصى من الأسر ، ومن التدنيس ،عوض صرف الأموال الطائلة على لاعبي كرة القدم ، وفيهم من ولاؤه للكيان الصهيوني ، وعلى السهرات الماجنة .  

ستقرأ الأمة الإسلامية بعد كل هذا الذي حدث  في غزة على ناشئتها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيمتحنها  فيه المدرسون ، ويطلبون  منها شروحا ضافية  له على أوراق الاختبارات ، وتجيبهم بما لقن لها ، لكنها ستسألهم : أحقيقة هذا أم حلم ؟ وأين نحن من هذا الذي يدرس لنا ؟ وما جدوى تدريسه ، وحفظه عن ظهر قلب ليس فيه أثر مودة، ولا رحمة ، ولا عطف ؟ وما قيمة جسد يشتكي منه القلب ، ولا تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ؟ وستسأل الناشئة مدرسيها وأطباءها: هل يمكن أن يتألم القلب ، ولا تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، ولا يستطيعون الإجابة عن سؤالها، لأنهم إن فعلوا أوقعوا أنفسهم فيما ينقض ما يعلمونه لها ، وفقدوا مصداقيتهم .

وأخيرا نواسي الأخوة الجريحة في غزة والضفة ، ونعزيها في شهدائها ، ونعزي قلوبا صادقة  لم يهدأ خفقانها لمصابها الجلل ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وسوم: العدد 1065