عبد الناصر وصورته… تسريبات كاشفة لا تستدعي الصدمة

مع الساعات الأولى لحرب يونيو/حزيران 1967 بدأت الصحف المصرية تتحدث عن انتصارات واسعة للجيش المصري، لتساور الشعوب العربية مشاعر باقتراب ساعة زوال دولة (إسرائيل)، وكان ذلك تحديدا ما تنتظره هذه الجماهير وتطالب به منذ سنوات، وتتعلق بأطرافه حين ترى الصواريخ المصرية (القاهر) و(الظافر) في مواكب دعائية واسعة وسط القاهرة، وهي الصواريخ التي بقيت في المخازن بعد فشل تشغيلها سوى في اختبارات تجريبية متواضعة.

مثل كثير من الزعماء الشموليين كان عبد الناصر يحكم مصر بواسطة صورته، وما يحيطها من أساطير متداولة بين المصريين، ويمكن أنه بجانب شخصيات قليلة في القرن العشرين، كان يمثل نموذجا لعبادة الشخصية، والصورة بطبيعة الحال لا تنفصل عن مبررات ومقدمات قامت الجماهير نفسها بالعمل على تضخيمها، وإضافة أبعاد درامية حولها، ولكن هل كان عبد الناصر نفسه على وعي بذلك؟ ويعلم الفرق الكبير بين شخصيته التي تتعامل مع حقائق ووقائع محددة، وصورته التي تبدي كلية الحضور ومفرطة القدرة، إلى أي مدى كان مقتنعا بقدرته على تلبية الهتاف الغنائي مع عبد الحليم حافظ: عايزين عايزين يا أمــل ملايين العودة العودة لأراضينا.. نرجع وياك للقدس هناك ولحيفا ويافا تعود بينا!

يعود عبد الناصر من خلفية المشهد العربي المضطرب، وفي الوقت الذي تواصل إسرائيل عدوانها على قطاع غزة، والبلطجة في لبنان وسوريا، ليتحدث الملايين عن تسريب صوتي لحديث له مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ليظهر مختلفا عن الصورة التي حاطته في معظم فترات حياته، ليأتي موته بعد أسابيع قليلة ويوقف رحلة التآكل التي بدأت مع يونيو، بل وكشعوب عاطفية يحظى بتعويض كبير ويلقي الشاعر نزار قباني المسؤولية على الجميع وهو يرثيه قائلًا: «قتلناك يا آخر الأنبياء». يظهر عبد الناصر في التسجيل مهادنا وضجرا من المزايدات التي يتخذها البعثيون في العراق، وبعض الدول العربية الأخرى وحديثهم عن الحرب، التي لا يرى عبد الناصر فيها سوى هزيمة جديدة ستلحق بالعرب، وبشكل عام، ربما يعتبر ذلك أوضح حديث لعبد الناصر، ولكنه لم يكن الوحيد، ولم يكن ليقدم شيئا مختلفا عما يدور في الكواليس العربية، منذ قمة الخرطوم التي عقدت بعد هزيمة يونيو، وطرحت أمام العرب جميعا الإشكالية الكبرى والتناقض العظيم الذي يتهرب الجميع منه، وهو حقيقة وجود (إسرائيل) وعدم توفر أي ظروف موضوعية تدفع لبناء قناعة بإمكانية تقويضها، وتحقيق ما يوصف بالتحرير الذي تنشده الدول العربية استرضاء لشعوب تغذت خطابيا وإعلاميا على حتمية ذلك لعقود من الزمن.

قبل يونيو ببضعة أسابيع كانت المنظمات الفدائية الفلسطينية تشن عملياتها ضد إسرائيل، والغاية هي التحرير الذي يعني ضمنيا زوال إسرائيل، وبعد التصعيد حول مضائق تيران ورائحة الحرب، التي خالطت الأفق وصلت المعنويات العربية إلى ذروتها، ولكن الحقيقة، أن إسرائيل حصلت على مساحات إضافية من الأراضي العربية تفوق ما تحصلت عليه في 1948 بكثير، والطريق لاستعادة هذه الأراضي كان يتطلب الاعتراف والإقرار بوجود إسرائيل، ولاءات الخرطوم لم تكن تعني شيئا، سوى خطوة معنوية، أما الكواليس فكانت تشهد حثاً من عبد الناصر للملك الحسين ليعمل على استعادة الضفة الغربية التي اعتبر ناصر فقدها أكثر أهمية وجسامة من احتلال سيناء نفسها. مارست أجهزة الإعلام الناصرية ضغوطات هائلة على الملك الحسين دفعته لمحاولات مستمرة لتقديم براءة الذمة من اتهامات متواصلة بالمهادنة، فأتت موافقته على استضافة قوات منظمة التحرير وتهيئة الأرضية لعملياتها، والقرار بالدخول في المعركة مع المصريين، وهو الذي أدى إلى موقف انقلابي في الواقع الاستراتيجي للصراع، وبعد أن كان الأردن يفرض سيادته على الضفة الغربية، بمعنى أنه ينازع إسرائيل على أرض فلسطين التي حددتها مرحلة الانتداب، ويوجد على مبعدة 15 كيلومترا من البحر المتوسط، يفقد الأردن أكثر من 5000 كيلومتر من الأراضي الخصبة، ومعها القدس الشرقية، ويدخل في مرحلة جديدة عليه أن يتدبر من خلال علاقاته مع الدول الكبرى، مسألة استعادة أراضيه، وبطبيعة الحال أن يقدم اعترافا بإنهاء الصراع الذي كان قائما مع إسرائيل.

المشروع السلمي كان الطرح الذي قدمه عبد الناصر أمام القذافي المتحمس، الذي يبدو أنه يفتقد لأي خبرة عسكرية ذات قيمة في معركة كبيرة يطالب شخصيا بخوضها، ويحض عبد الناصر على التقدم بذلك بدعم من مجموعة دول عربية، تشكلت قناعة لدى عبد الناصر أنها غير قادرة، ضمن الإمكانيات المتاحة على خوض هذه المعركة، ويقارن عبد الناصر بين الخسائر التي تتكبدها قواته يوميا على الجبهة، بالخسائر العراقية التي تنحصر في حوادث السير، بما لا يتناسب مع المزايدة والحديث عن الدفع لمعركة لا تتوافر على أي من شروط تحقيق النصر أو استعادة السبق الاستراتيجي. يجد عبد الناصر نفسه في الأسابيع الأخيرة من حياته، في مواجهة استثماراته في المرحلة السابقة، ويواجه تنمرا من الفصائل الفلسطينية، التي تولت في مرحلة ما قبل يونيو توزيع صكوك التقدمية على بعض الدول العربية (التي يتحدث عبد الناصر عن مزايدتها)، وتلحق وصمة الرجعية بدول أخرى، لم تمتلك عمليا مقومات خوض المعركة، لا سكانيا ولا ماديا في ذلك الوقت، وتنحصر كل مطالبه بأن يتصرفوا وحدهم وبعيدا عنه، ويعرض وضع خمسين مليون جنيه بحوزتهم وهو مبلغ هائل في ذلك الوقت. ما الذي حدث مع عبد الناصر في الفترة التي أتبعت حرب يونيو ودفعه إلى هذه الصورة التي تبدو مفاجئة لكثيرين ممن يستمعون للتسجيل المنشور مؤخرا؟ ينزف داخل عبد الناصر الجرح النرجسي، الذي دفعه للمقاربة الواقعية بعد أن كان يرفض الاعتراف بالحقائق الواضحة من تفوق اسرائيلي على المستوى العسكري، وقدرتهم على إلحاق خسائر كبيرة في الاشتباك بمعدل فاقد يمكن أن يصل إلى عشرة مصريين مقابل كل إسرائيلي، لدرجة أنه لا يبدو متفائلا، حتى لو وضع فاقدا محتملا يصل إلى مليون مصري.

في وسط الحديث يؤكد عبد الناصر بمرارة أنه لا يريد طائرات، ولكن طيارين، وهو يعرض بقدرة الدول العربية كلها على توفير المؤونة الكافية من الطيارين المدربين، الذين يمكن أن يستولوا على السماء من إسرائيل، ويبدو أن عبد الناصر الذي أودع الجيش لدى عبد الحكيم عامر، ليحوله إلى مؤسسة سلطة وسيطرة وتدخل في حياة المصريين، أدرك مدى الخطأ الكارثي في ضرب مفهوم الكفاءة والتأهيل مقابل التصورات عن الشجاعة والتضحية. لم يكن عبد الناصر وحده مسؤولا عن تغييب الكفاءة والاستحقاق لمصلحة الهتافات والشعارات، فالجمهور من عشرات الملايين المصفقين المتحمسين ومعهم أجهزة الإعلام المستعدة لاسترضاء الرئيس وخدمة صورته، جميعهم شركاء في صناعة الصورة، التي لم يكن بوسعها أن تخوض حروبا سوى في المخيلة التي بقيت تحكم الواقع وتحتكره، لدرجة أن استغلال عبد الناصر تواصل بعد رحيله، فتنازع بعض تراثه في مرحلة ما قبل الهزيمة القذافي من جهة، وصدام حسين من جهة أخرى، وآخرون كلٌ حسبما يستطيع ويريد، وكان طبيعيا أن تكون وسط الصور والتماثيل والخطب المجلجلة والشعارات الطازجة، أن يتقدم الجميع لمذبح هزيمة جديدة، إن لم تكن مجملة وواسعة وصادمة، فهي تمضي على مراحل وتفرض نفسها على الواقع لتصبح الصورة المشرقة مدعاة للرثاء مع الوقت.

وسوم: العدد 1125