حاضر ترامب وذكرى أوكلاهوما: مصادفات أمريكا غير العشوائي
شاءت مصادفات الولايات المتحدة الأمريكية أن تتزامن الـ100 يوم الأولى من رئاسة دونالد ترامب الثانية، مع الذكرى الـ30 للعملية الإرهابية التي استهدفت المبنى الفدرالي في مدينة أوكلاهوما (تكساس) أواخر نيسان (أبريل) 1995. وكان منتظَراً أن تتقاطع التقديرات، اتفاقاً أو اختلافاً، حول العلاقات بين الحدثَيْن، وما إذا كانت تلقائية الترابط في ذاتها ومن ذاتها؛ أو يتوجب تلمّسها على نحو استنباطي واستقرائي، غير خالٍ من المنطق مع ذلك؛ أو، في مقاربة ثالثة، ما إذا كان تزامن الحدثين مجرّد فصل جديد اعتيادي في سيرورة التداخل الدائمة للظواهر، في النسخة الأمريكية من تطور المجتمعات الرأسمالية ومركز الإمبريالية العالمية.
وحسب التقدير الأوّل، ثمة وشائج مباشرة بين شيوع ثقافة العنف في المجتمع الأمريكي، وضمنها هوس حيازة السلاح واللجوء إلى استخدامه لأسباب شتى يندر أن تكون مبررة في ضوء القوانين والأنظمة المرعية أو أعراف الدفاع عن النفس مثلاً، من جانب أوّل؛ وبين ثقافة الخوف والتقوقع على الذات وشعارات أولوية أمريكا والمناخات الشعبوية أو الانعزالية أو العنصرية، التي نهض عليها قسط كبير من برامج ترامب، وقراراته المبكرة بعد تنصيبه في 20 كانون الثاني (يناير) الماضي، من جهة ثانية. الترابط هنا يتأسس على ما هو متأصل عميق الغور في النفوس والثقافة الجَمْعية، وما هو مستجدّ تستحدثه البرامج السياسية والنزوعات الإيديولوجية والخطط الاقتصادية ــ الاجتماعية؛ وتحوّلات ترامب الأوّل بالمقارنة مع ترامب الثاني مثال كلاسيكي في هذا المضمار.
أصحاب التقدير الثاني يتوقفون عند مقدار المعنى أو اللامعنى، الامتلاء أو الخواء، الكيف أو الكمّ، في الـ140 أمراً رئاسياً التي وقّع عليها ترامب خلال الـ100 يوم الأولى من تولّيه الرئاسة؛ حيث استقراء هذه الغابة المتشابكة من القرارات والإجراءات يستوجب طرح أسئلة بسيطة، بعضها يلوح تبسيطياً أيضاً، حول الجدوى والغاية والتماسك والتناقض والتكامل. وما إلى ذلك كثير ومتعدد، خلف «خطة» الاستحواذ على قطاع غزّة، أو الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، أو تخفيض التمويل الفدرالي لجامعة كولومبيا وتجميد المعونات لجامعة هارفارد، أو تفعيل قانون يعود إلى القرن الثامن عشر لتبرير ترحيل 200 شخص إلى سجن في السلفادور، أو الوعد بالاستيلاء على جزيرة غرينلاند وكندا والمكسيك…
ثمة، في حزمة القرارات المقابلة، ما يحيل سريعاً إلى أصحاب التقدير الثالث لجهة الرسوم الجمركية بادئ ذي بدء، من حيث أنها تعيد تقويض «السلام» الكاذب المشاع بين المراكز الرأسمالية العالمية وأطراف الإمبريالية الكونية بالقياس إلى المركز الأمريكي؛ ومن حيث أنها، في الجوهر أيضاً، إعادة إنتاج في القرن الـ21 لنبوءات كارل ماركس وفردريك إنغلز أواخر القرن التاسع عشر، حول منظومات رأسمالية تُدفع إلى أكل بعضها البعض، ولا تعفّ عن حفر القبور والقبور المضادة. وفي جذور التناطح الجمركي الراهن، ثمة إحالة إلى «إيديولوجيا شائهة ترتكز عليها أصولية اقتصاد السوق»، كما يعبّر الاقتصادي الآسيوي البارز هنري ليو؛ الذي لا يكتفي بالحديث عن أنظمة اقتصاد «سوبر ــ رأسمالية» و«سوبر ــ إمبريالية»، بل يرصد انحطاطها إلى «إمبريالية مالية» عملاقة أخذت تأكل نفسها في غمرة اندفاعها إلى التهام الآخرين.
وإذا كانت هزّة أوكلاهوما لم تجد لها مكانة الصدارة في خطاب ترامب الإجمالي، الضيّق المحدود الفقير معجماً وفكراً في آن معاً؛ فإنّ في طليعة قراراته الأولى كان إصدار عفو عامّ فوري عن عتاة المشاغبين من أنصاره الذين اقتحموا مبنى الكونغرس، مطلع العام 2021؛ وهؤلاء ليسوا سوى أبناء أو أخوة أو آباء الإرهابي تيموثي ماكفي، بطل تفجير الشاحنة المفخخة أمام المبنى الفدرالي في أوكلاهوما، حيث سقط 168 من القتلى في صفوف الأطفال والنساء والرجال، فضلاً عن جرح قرابة 680 شخصاً، وإلحاق الأضرار بـ 324 مبنى مجاوراً، و652 مليون دولار من الخسائر في الأملاك العامة والخاصة.
اليوم تقول المعطيات، المنشورة على الموقع الرسمي لمكتب التحقيقات الفدرالي، أنّ المحققين أجروا أكثر من 28.000 مقابلة، وجمعوا 3 أطنان من الأدلة، وفتشوا 13.2 مليون سجلّ فندقي، و3.1 مليون سجلّ لتأجير الشاحنات، و682.000 سجلّ حجزٍ في شركات الطيران؛ والنتيجة الكبرى المعممة ما تزال تذهب إلى أنّ الإرهاب خارجي ــ دولي، وما من ثقافة إرهابية شائعة في الولايات المتحدة؛ وبالتالي: لا صلة بين همجية القرارات التي يواصل ترامب اتخاذها، وبين نسف هذه أو تلك من ركائز الديمقراطية الأمريكية، بما يتيح انتعاش الإرهاب الداخلي الأمريكي ــ الأمريكي.
وكان التعقل آخر المرجعيات حين دارت طواحين أمريكا الرسمية، أسوة بتلك الإعلامية، لتوجيه أصابع الاتهام إلى «الإرهاب الإسلامي» في واقعة تفجير المبنى الفدرالي؛ ومعها طفت على السطح حكايات صدام الحضارات، والارتطام الثقافي المحتوم بين التراث اليهودي ــ المسيحي (الغرب) والتراثات الإسلامية ــ الكونفوشية (الشرق) استناداً إلى تنظيرات أناس أمثال صمويل هنتنغتون وبول جونسون وبرنارد لويس وفؤاد عجمي. من جانبه كان وليام بيري، وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، قد حسم أمره بعد ساعات معدودات من وقوع الانفجار، وقرّر أنّ «الإرهاب الإسلامي» يقف وراء العملية؛ ولم يجزم مراسل الـ CNN حول ما إذا كان الوزير العتيد قد عرّج أيضاً على «جبهة الإنقاذ» الجزائرية، وجماعة «التكفير والهجرة»، و«الجهاد الإسلامي» و«حماس»، قبل أن يختم اللائحة النموذجية بـ… الشيخ حسن الترابي!
اعتقال الإرهابي ماكفي (عن طريق الصدفة المحضة، للتذكير، ولأنه كان يقود بلا شهادة ويحمل سلاحاً غير مرخص) كشف النقاب عن دوافع التفجير، من جهة؛ وكشف سوأة الذين سارعوا إلى اتهام الإسلام والمسلمين، على نحو يقيني شبه مطلق، من جهة ثانية. وسرعان ما اتضح أنّ ماكفي، وشريكه تيري نيكولز، ينتميان إلى ميليشيا شبه عسكرية، معادية لنظام الحكومة الفدرالية، واختارا للعملية توقيتاً يتناسب مع الذكرى الثانية لحصار مجمّع واكو واقتحامه، حيث قضى حرقاً 76 شخصاً، بينهم نساء حوامل وأطفال، من جماعة «الفرع الداودي».
ليس من الواضح، بعد هذا كله وسواه، أنّ «العقل» الأمريكي قد تعلّم الكثير، أو حتى الحدّ الأدنى المطلوب، من دروس أوكلاهوما وشخصية ماكفي؛ الآن تحديداً، إذْ يجري تصعيد الترامبية إلى مستوى العقيدة الصماء المطلقة التي تضرب خبط عشواء؛ حتى حين يبلغ الرجل درجة الحديث، باستخفاف فاقع، عن أنه لا يمزح بصدد الترشح لولاية ثالثة.
فإذا كان يسيراً إدراك الأسباب التي تجعل أيّ تيموثي قياسي في سنة 2025، يقتدي بمواطنه الأصلي تيموثي 1995، في استهداف مدرسة أو كلية أو مسجد، فكيف لليسر ذاته ألا يبيح طرد طالب دراسات عليا لأنه متعاطف مع ضحايا الإبادة الجماعية في قطاع غزّة. وكيف لا تكون شعبية ترامب خلال الـ100 يوم ثابتة أو تكاد، لا تنقص إلا بمعدّلات أقلّ القليل؛ بينما التزامن بين حاضر ترامب وذكرى أوكلاهوما لا يتقادم إلا لكي يتكامل في ذهنية جَمْعية أمريكية تقيم التعاقد بين دلالات المناخَين؟
وكي لا يبدو ترامب نسيج وحده في حال الـ100 يوم الأولى هذه، للمرء أن يستعيد جون ف. كنيدي، و«خليج الخنازير؛ أو جيرالد فورد، والعفو الشامل عن جرائم ريتشارد نيكسون كافة؛ أو جيمي كارتر، في تشريع الغاز الطبيعي وتجاوز الكونغرس بعد 60 يوماً… ذلك لا يعني، في كلّ حال، تجريد ترامب من قصب السبق على جميع أسلافه الرؤساء، جمهوريين وديمقراطيين معاً؛ خاصة وأنّ الآتي منه قد يكون أفدح!
وسوم: العدد 1125