قالت شهرزاد: رواية إسلام وهبة اضهير من رفح

د. فيحاء عبد الهادي

ولما كان اليوم التاسع والسبعون بعد المائتين، للإبادة الجماعيّة الهمجيّة، على غزة الأبيّة، ومع فجر يوم الخميس، الحادي عشر من تموز/يوليو، من العام ألفين وأربع وعشرين ميلاديّ، والخامس من محرّم، من العام ألف وأربعمائة وستة وأربعين هجريّ، وبعد أن نفّذ الجيش الإسرائيليّ أربع مجازر في رفح، منذ شهرين اثنين، وكثَّف بعدها عملياته العسكرية، من قصف أرضيّ بواسطة نيران المدفعيّة، وقصف جويّ بواسطة الطائرات الحربيّة، أدّى إلى تهجير نحو ثمانين ألف، خلال أيام؛ حدَّثتني هالة الخفش قالت حدّثني إسلام محمد اضهير وزوجته هبة مصباح اضهير، من رفح، عن مصيبتهما؛ حين فجعا باستشهاد أولادهم، بعد نسف البيت على رؤوسهم.

كان ذلك أيها الجمهور "السعيد" ذو الرأي الرشيد؛ يوم السبت، في الواحد والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر، من الشهر الأوّل للعدوان البربريّ على غزة، حيث وقع سقف البيت على عائلة إسلام وهبة اضهير، إثر قصف إسرائيليّ جويّ جنونيّ؛ مما تسبَّب في إصابة الوالد بجروح وكسور، وخاصة في القفص الصدريّ، كما تسبَّب في قتل أبنائهما الأربعة: "أيمن" ذي الثلاثة عشر عامًا، و"إيمان"، التي كانت قد بلغت اثني عشر عامًا، و"أندلس"؛ ابنة العشرة سنوات، و"أوس" ابن الخامسة، وقتل ابن أخي إسلام "الياس أنس اضهير"، الذي كان في عمر أوس، وكان يلعب معه ساعة نسف البيت.

أما كيف نجت الوالدة يا سادة يا كرام؛ فقد كان معجزة بذاتها، كما وصفها زوجها؛ حيث ذهبت هبة اضهير قبل الضربة الجوية بمدة وجيزة، في زيارة قصيرة، لبيت قريبة زوجها، الذي يبعد أربعين مترًا عن بيتها، لمساعدتها بعد وضعها مولودها. 

وما كادت تصل باب البيت، حتى سمعت صوت انفجار كبير، فأصابها فزع مريع، مما جعلها تهرع عائدة إلى دارها، كي تتفقد أولادها وزوجها، وتطمئن إلى سلامة عائلتها.

ولحظة وصولها إلى بيتها؛ كادت أن تكذِّب نظرها؛ رأت أحجاره ركامًا، ومحتوياته حطامًا، ولم تجد واحدًا من أفراد عائلتها. لم تصدّق أم أيمن أن دقائق قد فصلتها عما حدث، وأن دقائق قد وصلتها بما حدث، مما يمكن أن يقلب حياتها وإلى الأبد يغيّرها. توجهت إلى المستشفى على الفور؛ لتجد زوجها جريحًا، وأولادها الأربعة قتلى/شهداء.

ورغم الألم الذي اعتصر قلب الوالد؛ لكنه تحدث عن إحساسه بالسعادة؛ لأنه لم يجد واحدًا من أجساد أطفاله متفحِّمًا، أو مقطعًا، حين تمّ انتشالهم من تحت الأنقاض، وأسعده أنه استطاع بنفسه تكفينهم، وبيديه دفنهم، وبناء قبر لهم، في المدافن غربيّ رفح، وأحسَّ كأنه كان يبني سكنًا لهم. وتحدَّث عن إحساسه بالرضى، لأنه استطاع وضع شاهد على القبر، صنعه من قطعة رخام استصلحها من حطام مطبخ بيته، وأرسلها إلى صديق فنان، كي يكتب عليها أسماءهم، وأعمارهم، وتاريخ، ومكان استشهادهم.  

لم تنفرج أسارير هبة، ولم تنطلق في الكلام، سوى حين بدأت تتحدث عن أطفالها الأربعة. تناوب الوالدان الحديث عن صفات الأولاد الجميلة، وآمالهم الكبيرة، وتسابقا في الحديث عن شقاوة البنتين والولدين، ومقالبهم، وذكائهم، وأحلامهم.

تحدّثا باعتزاز كبير، عن ولدهم الأكبر أيمن إسلام اضهير، ووصفاه بأنه رهيب، و طيب القلب، وحنون، وطموح، وغامض، وهادئ، وخفيف الدم، وذكيّ، وكوميديّ. تحدثا عن هوايته مشاهدة التلفاز، ولعب الكرة، والألعاب الإليكترونية، والسباحة، ورغبته أن يصبح طيارًا، وممازحته أشقاءه حين كان يخبرهم أنه يريد أن يصبح مستقبلًا بائع فلافل. وتحدثا أيضًا عن عصبيته، وتحسّسه من الأصوات المستفزّة، والمتكرِّرة.

وتحدثا بإعجاب وفخر، عن ابنتهما الأكبر إيمان إسلام اضهير، ووصفا شخصيّتها بأنها قويّة، وتتحمل المسؤوليّة. تحدثا عن اجتهادها، وعلاماتها الأعلى في صفِّها، وعن شعبيّتها، وطموحها، ورغبتها في أن تصبح طبيبة، وعن اشتراكها في الإذاعة المدرسيّة، ومساعدتها المحتاجين، وعن موهبتها في الرسم، وحبّها للقراءة، وعن طموحها، وتحمّلها مسؤوليّة أشقائها، وخاصة أخيها الصغير أوس؛ اللذيذ والذكي، الذي دأبت على اصطحابه معها أينما ذهبت، حتى أنها اصطحبته واحتضنته في رحلتها الأبدية.

أوس إسلام اضهير، الذي وصفه والداه بأنه كان قويًا، وأنه بسرعة مشى، وحكى، وتعلم. تحدثا عن حبّه للصيصان، والحمام، والدجاج، والقنافذ، والسمك، والنمل، والخنافس، وذكرا أن دجاجة كان يرعاها تبعته بعد استشهاده، وكأنها  تبحث عنه، تحدثا عن حبه الألعاب جميعها، وخاصة لعبة الرجل العنكبوت، والرجل الوطواط، والرجل الخارق، وكيف كان يحب أن يلعب بالسيارات والطائرات، وأن له شخصيته الخاصّة، إذ كان يأكل اللحم، والموز، والبرتقال، ولم يكن يرضى أن يأكل اللبن، أو الجبن، أو يشرب الحليب. كان يكره اللون الأبيض؛ ولم يكن يعلم أنه سوف يكفَّن مع أشقائه وصديقه باللون الأبيض.

أما حديث الوالدين المطوَّل؛ فكان عن ابنتهما الأصغر أندلس إسلام اضهير؛ الشقراء الجميلة، والعبقرية، واللمّاحة، والفنانة، والمؤدّبة، ذات الصوت الناعم، والحادّ، والشخصيّة القويّة، والشعبيّة الطاغية. تحدثا عن اجتهادها، وطموحها، وأملها أن تدرس التجميل، والتصوير، وتصميم الأزياء.

   وصفتها الوالدة بأنها كانت قوية، وتصرّ ان تأخذ حقها بيدها. واعتبرها الوالد حكاية كبيرة، ووصفها بقوله إنها كانت امرأة فلسطينية أصيلة. روى كيف أنها كانت الوحيدة من بين عائلته كلها، التي كانت تجرؤ أن تحدثه حين يكون عصبيًّا، أو حزينًا، واعتبرها صاحبته وموضع سرّه.

لم يكن إسلام ليتوقع أن يتمّ استهدافه وأسرته أيها الأفاضل؛ كان صحفيًا ومترجمًا، ولم يعمل يومًا بالسياسة.

 لم يكن ليتخيل أن الاستهداف سوف يشمل الشعب الفلسطيني كله، بما فيهم الصحافيين، مما أخاف أهل القطاع منهم، بوصفهم جميعًا مستهدفين. لم يتوقع أن النية هي مسح قطاع غزة، وقتل المدنيين، والتركيز على قتل النساء والأطفال، وأكبر عدد من الصحافيين، ولم يتوقع تدمير البنية التحتية بأكملها؛ المؤسسات، والجامعات، والمستشفيات، والمدارس، والمراكز الثقافية، والأندية الرياضية، والمساجد، والكنائس، والأطباء، والمسعفين، ورجال الإطفاء، والدفاع المدني. روى كيف أن جيش الاحتلال الإسرائيليّ لم يسمح بدخول أي صحافيّ أجنبيّ، أو وكالة أنباء أجنبيّة، إلى القطاع، منذ بداية العدوان،  وووووووووووووووووووأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح.

وسوم: العدد 1127