صوت غزة: نحن أحياء يا بشر من ينقذنا من هذا الجحيم؟
«مثل هذا الحزن الذي رأيته في عيون أطفال غزة رأيته فقط في عيون والديّ بآخر أيامهم؛ نظرة ذاك الطفل، ابن السادسة، تبدو كأنها نظرة مدركة، تحدق في الفراغ لكنها لا ترى شيئا، وجسده منقبض على نفسه، إنه طفل بلا «براءة واثقة» في عينيه». هكذا جاء في مقالة نشرتها الصحافية أورنا رينات في جريدة «هآرتس» بعنوان «أبي أنا حيّ، أخرجني من هنا»، سردت فيها عددا من حالات موت أطفال غزة، إما جوعا وإما حرقا، وإما تحت ركام بيوتهم بعد أن قصفتها طائرات الموت الإسرائيلية.
«يوسف الصغير، عمره خمسة شهور، لم يرضع حليب أمّه لأنها كانت تعاني من الجوع. لقد التصق بصدر أمه بيديه الصغيرتين المشتهيتين للحياة، وحاول بكل قوته، مرة تلو المرة، وطلب وتضرع وتلمّس وفتش على غير هدى. كانت أمه تحتضن جسده النحيل المرتجف، وكان ينظر نحوها ولا يستوعب أنها، وهي درعه الواقي الوحيد في هذا العالم، لا تستطيع أن تساعده وهي تدرك ذلك. كان وزن يوسف كيلو ونصف الكيلو، ولم يتبق من جسده سوى العظام والدم والعذاب. عمره خمسة شهور وقسمات وجهه تحمل عذابات حياة كاملة. عيناه المستديرتان الكبيرتان تطلبان شيئا هو لا يعرف أن يسميه. هل نجح أن ينام؟ هل حاول أن ينام وكان الجوع في كل مرة يوقظه؟ إنّه جائع ويطلب غذاء وحسب.»
قرأت التقرير المليء بقصص موتٍ فلسطيني لا يصدقها العقل. كنت مذعورا وحزينا ومستفزا؛ «فابي أنا حي» كان صراخ طفل تركه أبوه لبضع دقائق، وذهب يفتش عن وسيلة نقل كي يؤمن خروجه وخروج أبنائه الثلاثة من المخيم، لكنه سمع صوت القذائف فعاد مسرعا ووجد بيته ركاما وصوت ابنه ينادي من تحت الركام « أبي أنا حي اخرجني من هنا»، جنّ جنونه فحاول ومن وجدوا في المكان أن يزيلوا بأياديهم الأنقاض لكن صوت الطفل خفت، ثم تقطع، ثم صمت. صمتُّ أنا وتساءلت: هل يقرأ الطيّارون الإسرائيليون قصص ضحاياهم؟
مرّت ستمئة يوم على الحرب الإسرائيلية، التي ما زالت نهايتها، بعيدة، لاسيما بعد أن أعلنت حكومة نتنياهو في منتصف شهر مارس الماضي، توسيع الحملة العسكرية وتحديد أهدافها «بالقضاء على عناصر حماس» وهو تعبير يجيز القضاء عمليا على جميع المدنيين الساكنين في تلك المناطق، أو تهجيرهم واحتلال تلك المناطق لإبقائها تحت سيطرتهم. لم يحظ قرار الحكومة الإسرائيلية المذكور بالدعم التلقائي المعتاد والواسع داخل المجتمع اليهودي، فقد أبدت عدة جهات تحفظها عليه ومعارضتها له. بعضهم انتقده لأسباب سياسية حزبية تنافسية، وبقوا محتفظين بمواقعهم داخل معسكر الإجماع الحربي الصهيوني، بصيغه الأساسية والأصلية، بينما عارضته عدة شرائح وقطاعات يهودية بقناعة لديها، أن استمرار الحرب الوحشية على غزة لم يعد مبررا بعد أن فقدت ذريعتها «كحرب دفاعية» فرضتها نتائج عملية حماس وتهديدها لمفهوم الأمن القومي الاسرائيلي بكل معانيه، كما كان الادعاء بعد السابع من أكتوبر.
كانت الأصوات المعارضة للحرب هامشية وفردية، ولم تتطور، طيلة العام ونصف العام الماضيين، لتصبح ظاهرة تستوجب الالتفات إليها ومتابعة تحولاتها ومراقبة أبعادها وهي تتشكل، كما يحصل أمامنا في الأشهر الأخيرة، كحركة معارضة اجتماعية سياسية، دفعتها مشاهد الكارثة الفلسطينية والإبادة الجماعية إلى التفكير في أخلاقيات خطابها التقليدي ومبرراته، وإعادة النظر في بعض مآلات سردياتهم المقدسة، وفرضياتهم الراسخة حيال مفهومهم من هي الضحية ومن هو المجرم.
لا يمكن لمن يتابع ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة العبرية، ألّا يلحظ حدوث هذا التغيير، الذي لا يقتصر على حجم الظاهرة اللافت وحسب، بل يشمل التحوّلات في مضامين الخطاب المعتمد من قبل تلك الفئات، ولغتها تجاه وصف جرائم حكومتهم وجيشها، وكونها جرائم حرب تشمل جريمة التطهير العرقي والتجويع وجرائم ضد الإنسانية تستهدف إبادة الفلسطينيين. لقد نأت تلك الفئات في الماضي عن استعمال هذه اللغة والتوصيفات من باب الحرص على «نزاهة الفعل الصهيوني» خلال المواجهة التاريخية مع الفلسطينيين والعرب.
نشرت قبل يومين في وسائل الإعلام الإسرائيلية رسالة وقعها 1300 محاضر وطالب جامعي إسرائيلي منتظمين في مجموعة تطلق على نفسها اسم «علم أسود» ينتقدون فيها صمت الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ازاء ما يجري في غزة، «إننا أمام مشهد يثير الفزع جراء جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي هي كلها من أفعالنا نحن» ومؤكدين «لن نستطيع الادعاء بأننا لم نكن نعلم، فقد صممنا آذاننا وقتا طويلا «. كتبت الرسالة بلغة واضحة معتمدة على تعاريف القوانين والمواثيق الدولية، ما قد يعطي إشارة لشحن وتشجيع التيارات والأصوات العالمية، الشعبية والمؤسساتية والأكاديمية والحكومية، التي بدأنا نسمع منها مواقف جديدة وهي تعلن عن تحفظها أو شجبها ومعارضتها لسياسة إسرائيل ولجرائمها البشعة.
هنالك عشرات المنصات الإسرائيلية والمدونات التي تعمل على فضح ممارسات الجيش الإسرائيلي في غزة وفي الضفة الغربية وداخل سجون ومعسكرات الاعتقال الإسرائيلية. ومن المؤكد أن منشوراتهم ساعدت على تكوين قاعدة معلومات موثقة وحقائق مغايرة لما تنشره آلة الدعاية الرسمية وعملاؤها. لقد أدى تراكم هذه المعلومات وتأكيد حجم الجرائم، إلى تغيير مواقف عدة شرائح اجتماعية وفئات نخبوية، وشروعهم بتجريم الفعل الإسرائيلي وفق قوالب أخلاقية مصححة وبمصطلحات قانونية واضحة، حتى إن بعضهم لم يتردد بإجراء مقاربات ومقارنات بين ما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وما جرى مع آبائهم في أوروبا إبان الحقبة النازية. ومثالا على ذلك، نشرت جريدة «هآرتس» قبل يومين مقالا تقول فيه كاتبته بجرأة، إنها كانت دائما تتساءل «كيف استمر الألمان في حياتهم عندما كانت الفظائع ترتكب تحت أنوفهم». وتضيف «اعتقدت أنه لو أراد عدد كاف من العقلاء أن يمنعوا حدوث كارثة لاستطاعوا ذلك. لكنني لم آخذ في الحسبان قوة الإنكار الداخلي لدى الأشخاص». هكذا قالت كاتبة المقال نوعا ميمان، وكانت تقصد طبعا حالة العقلاء من أبناء شعبها، الذين يستمرون بممارسة حياتهم الطبيعية رغم ما يرتكبه جيشهم من فظائع «تحت أنوفهم».
لست واثقا من أننا نقف أمام ظاهرة إسرائيلية من شأنها أن تكبر وتتحول إلى عامل مؤثر في منع حدوث اكتمال الكارثة الفلسطينية؛ لكنني أكتب مقالتي وغزة تقصف ويقتل أطفالها وهم ينادون من تحت الأنقاض «يا أبناء أمتنا نحن أحياء. أخرجونا من هنا « نادوا حتى خفتت أصواتهم وتقطعت وصمتوا، وكانت حاسبات أمتهم تحصي أعدادهم كأرقام في رهانات سباقات الخيل والجمال أو كحبات مسابح في صلواتهم العقيمة.
أكتبها والضفة الغربية ومعها القدس تواجهان «خطة الحسم الأخير» وأهلها يتركون عزلا وفرائس لقطعان ذئاب جائعة، محاصرين تحت سماء بعيدة وعارية. وأكتبها وأسمع كثيرين ممن يرون النصر ناجزا بين أنقاض غزة، يقفون على سياج التاريخ الرمادي ويجترون، كما فعل الأسبقون، شعارات لا ترفع حجرا عن جمجمة طفل يستنجد قلب أبيه المنفطر ويتلمس ثدي أمه الجائعة قبل موتهما معا. واكتبها وأمامنا، نحن الواقفين على عتبة الكارثة، قاطرة صغيرة عليها بضعة يهود خارجون عن كتائب يوشع، فأسأل: أو ليس علينا أن ندع هذه القاطرة تكبر، عسى تستطيع كوابحها أن توقف جنون حكومة مندفعة عربات نيرانها نحونا كالسيل أعمى.
أقول ربما، وغزة تصيح: يا مسلمين، يا عرب، يا بشر، أو مثلما صاح صاحب «انشودة المطر»: «يا خليج يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى! فيرجع الصّدى كأنه النشيج. وعبر أمواج الخليج، تمسح البروق، سواحل «الشرق» بالنجوم والمحار, كانها تهم بالشروق فيسحب الليل عليها من دم دثار» نسمع صياحها وأخشى أن يسألنا بعد فجر، أبناؤنا: من سيخرجنا، يا أبتي، من هذا الحطام، من هذا العدم من هذا النثار؟
وسوم: العدد 1127