ورقات من تاريخ الأسرة والقرية في جنوب السعودية ( تهامة وسراة) خلال العصر الحديث

أ. د . غيثان بن علي بن جريس

ggfgaad1130.jpg

إن نواة أي مجتمع الفرد (الأفراد)، والأسرة. وتاريخ الحياة الأسرية في تهامة والسراة محكومة بالكثير من الأعراف والتقاليد الزمانية والمكانية. فالتضاريس والمناخ والموارد الطبيعية، والأحداث التاريخية (السياسية والحضارية) تشكل التركيبة الأسرية بجميع شرائحها البشرية. وأثناء اطلاعي وقراءاتي في علوم التاريخ وغيرها من العلوم الإنسانية، بالإضافة إلى مشاهداتي ورحلاتي، وجدت أن الأسرة السروية والتهامية تختلف أوضاعها وظروفها من مكان لآخر. فالأسرة الريفية أو البدوية يتعاون جميع أفرادها في كسب أرزاقهم. فإذا كانت مهنتهم الرئيسية الترحال والجمع والالتقاط، والصيد والرعي، فهم يتوزعون الأدوار. وأعمال الرعي هي الأكثر ممارسة عند الأسر البدوية. فهناك من يقوم بحرفة الرعي طوال النهار، وأحياناً يتناوب أفراد الأسرة أو الأسر المتقاربة ويقوم الرجال ( كباراً وصغاراً ) بأعمال الرعي، وقد يشاركونهم النساء أحياناً، والمرأة غالباً تقوم بالخدمة المنزلية في المنازل المصنوعة من الصوف، ثم العشش من القش والأخشاب، وأحياناً من الزنك والحديد.

     إذا بحثنا عن مستوى معيشة الأسرة البدوية خلال القرن (14هـ/19ــ20م) وجدناها بسيطة جداً في جميع مكوناتها المادية ، ثم نمت تدريجيًّا مع التطور الحضاري الحديث الذي تعيشه البلاد السعودية، وتلاشت حياة البادية بنسبة كبيرة، وتحولت أعمال الأسر البدوية من مزاولة الرعي والتنقل إلى حياة التمدن والمدنية في شتى مناحي الحياة. والوضع نفسه جرى مع البدو في السروات والأجــــــزاء التهامية السهلية والساحلية .

     إن حياة الأســــــر في القرى، والأرياف، والمدن أفضل من الحياة البدوية، لاستقرارهم في منازل ثابتة مبنية من الطين والحجارة، أو من الطين. وأحياناً يعيشون في بيوت من القش والأخشاب وأغصان الشجر وبخاصة في الأجزاء التهامية السهلية والساحلية الممتدة من مكة والليث إلى جازان، أو في حواضر السروات الشرقية مثل تربة، ورنية، وبيشة وغيرها.

       أما السروات الممتدة من نجران وقحطان إلى الطائف فأغلب منازلهم من الطين والحجارة. وحرفهم الزراعة، وبعض الأعمال والمهن الاقتصادية الأخرى. هكذا كانت أحوالهم خلال القرون الإسلامية الماضية إلى منتصف القرن (14هـ/20م)، ومنهم نسبة قليلة عملوا في الأعمال التجارية أو الإدارية (المدنية والعسكرية) .

       بعد قيام المملكة العربية السعودية بدأت أحوال الأفراد والأسر التهامية والسروية، تتحسن ماديًّا ومعنويًّا، مع أنهم بقوا يمارسون أعمالهم التقليدية (زراعة، ورعي، وتجارة، وحرف وصناعات يدوية عديدة)، وأثناء مسيرة عجلة البناء والتطوير الحضاري الحديث والمعاصر بدأ أفراد الأسرة (الأسر) ينخرطون في الكثير من الأعمال والوظائف المتنوعة، بالإضافة إلى تطوير أنفسهم معرفيًّا، وماليًّا، وثقافيًّا، وتعليميًّا، ووظيفيًّا. وزادت وتيرة تطوير الأرض والإنسان خلال العقود الخمسة الماضية (1395ـــ1445 هـ/1975ــــ2024م)، وجرى الكثير من التحولات في حياة الفرد والأسرة في أرجاء البلاد السعودية. والسرويون والتهاميون جزء صغير من هذا الكيان الكبير.

(*) في النقاط التالية أرصد شيئاً من تاريخ الأسرة من بداية القرن (14هـ/19م) إلى وقتنا الحالي (1445هـ/2024م) ، وهي على النحو الآتي :

١- تواضع الحياة الاقتصادية، وفقدان الأمن، والصراعات القبلية المحلية، أو الصدامات العسكرية التي جرت على تراب هذه البلاد خلال القرون الهجرية الماضية جعل الأفراد والأسر في كل مكان يلتفون حول بعضهم من أجل التقارب روحيًّا وجسديًّا، والتكاتف والتعاون في ممارسة أعمالهم وكسب أرزاقهم، والدفاع عن أهلهم وأنفسهم مما يحيط بهم من رزايا بشرية وحيوانية أو طبيعية، وإلى عهد قريب كان رجال ونساء الأسرة، أو القرية لا يذهبون بعيداً من محيط أسرهم وقراهم حتى في الزواج والمصاهرة وغيرها. ونادراً قديماً ترى فرداً أو أسرة تترك أرضها الأساسية، وتخرج من مكانها الذي ولدت وعاشت فيه. وكان هذا النمط من الحياة قويًّا وعميقاً في المستوطنات البدوية والقرى والأرياف. أما المدن الرئيسية مثل: الطائف، والقنفذة، وبيشة، وأبها، وخميس مشيط، وجازان، وصبيا وغيرها فالقاعدة الأسرية والاجتماعية أكثر اتساعاً اجتماعيًّا واتصالاً بغيرها من البلدان الأخرى الصغيرة.ومن بعد الخمسينيات في القرن (14هـ/20م) بدأت تتوسع تدريجيًّا مجالات العلاقات بين الأفراد والأسر في كل مكان، ومن التسعينيات في القرن الهجري الماضي إلى الآن (1445هـ/2024م) تغير الوضع الأسري بشكل كبير جداً، وفي كل الاتجاهات الداخلية والخارجية.

٢- قرأت وسمعت وشاهدت بعض الأوضاع الفردية والأسرية خلال القرن الهجري الماضي، وهذا القرن (15هـ/20ــــ21م). واتضح أن الأوائل كان عندهم الكثير من المثل والقيم الأسرية الراسخة، مثل: قوة التقارب بين أفراد الأسرة الواحدة، أو الأسر المتقاربة في المنزل أو القرية. فالأب والأم، أو الجد والجدة هم أصحاب الكلمة الفصل فيما يتعلق بشؤون أفراد أسرهم (صغاراً وكباراً) في شتى الجوانب. ناهيك عن الاحترام والتقدير من الصغار للكبار، والعطف والرحمة من الكبار للصغار، والتربية الجيدة التي يتميز بها أفراد الأسر تجاه أي فرد كبير ذكراً أو أنثى في الأسر المجاورة أو عموم القرية، فالأبناء والبنات يرون الآباء والأمهات في الأسر الأخرى مثل آبائهم وأمهاتهم الحقيقيين، فلا ينادونهم إلا بأحسن الألقاب مثل: الخال أو الخالة، أو العم أو العمة. وفي بعض النواحي من الديار التهامية والسروية ينادى الإنسان الكبير في القرية أو العشيرة باسم (أمي) للمرأة أو (والدي) أو (أبي) للرجل. ويرى الفرد الكبير (أنثى أو ذكر) في القرية أن أي شاب أو شابة في قريته مثل ابنه أو بنته تماماً، فيدعو لهم بالخير، وينصحهم أو ينهرهم عن أي سلوك غير لائق، وإذا وجد الواحد منهم بعض الأبناء في طريقه وهو ذاهب إلى المسجد يناديهم لحضور الصلاة وغيرها من الآداب الجيدة، وهم يرحبون بذلك وينصاعون وينفذون الأوامر، وغيرها من العادات والصلات الجميلة بين أفراد الأسر الواحدة في أي ناحية. ومثل هذا المجال غير موثق في كتب علمية، وإذا كان شيئاً منه مذكوراً فلا تتجاوز مادته العلمية سطوراً أو فقرات محدودة.

٣- التراث الحضاري الإيجابي الذي عرفته وعاشته الأجيال السابقة حتى نهاية القرن الهجري الماضي يستحق منا معاشر المؤرخين والباحثين الدراسة والتوثيق. وفي العقود الماضية المتأخرة من هذا القرن (15هـ/20ــــــ21م) تدهورت الكثير من تلك العادات الجيدة، وظهرت أعراف وتقاليد كثيرة بين الأسرة وأفرادها، معظمها سلبية ومختلفة عما كان عليه الأوائل، وزادت المشاكل الأسرية، وارتفعت نسبة العقوق عند الأبناء والبنات، والشقاق بين الأقارب، والأزواج والزوجات، وتخلى الآباء والأمهات عن كثير من واجباتهم ومسؤولياتهم الأسرية، ونشأت العلاقات القائمة على المصالح الشخصية والمادية النفعية. ومن يزور المدارس، ومراكز الشرطة والحقوق، والسجون، والمحاكم وغيرها من المؤسسات الحكومية ذات الصلة المباشرة بالقضايا والأحوال الشخصية وغيرها فإنه يسمع ويرى الكثير جداً من السلبيات الفردية والأسرية التي لم تكن موجودة إلى عهد قريب. ولا أنكر أن هناك أفراداً وأسراً مازالت محافظة على الكثير من عاداتها وقيمها الجيدة، لكن المشاكل والعقبات تنوعت وأصبحت كثيرة جداً.

     الحديث عن القرى أو القرية مجال واسع يتفرع إلى عشرات بل مئات الموضوعات. ومعظم تركيبة المجتمع السروي والتهامي قبائل عربية استوطنت بواديها وقراها منذ آلاف السنين. وبعض الكتب الكلاسيكية الأجنبية أشارت إلى عدد من المدن أو القرى القديمة، ومصادر التراث الإسلامي المبكر والوسيط رصدت محطات ومواطن عديدة على طول الطرق التجارية الرئيسية. أما المصادر والمراجع الحديثة من القرن العاشر الهجري إلى عصرنا الحاضر فذكرت الكثير من المواقع الحضرية والريفية والبدوية في أنحاء البلاد. ومن يتجول في أرجاء المناطق الجنوبية السعودية يشاهد آلاف القرى القديمة والحديثة . وهناك بعض المواضع التراثية التي يعود تاريخها إلى عشرات العقود، أو مئات الأعوام، ومازال بعضها ماثلاً للعيان، لكنها لم تعد مسكونة، فقد تركها أهلها وانتقلوا إلى منازل، أو قرى، أو أحياء جديدة، وفي أماكن كثيرة اتصلت القرى أو الأحياء الحديثة بالمستوطنات التراثية القديمة.

(*) الملاحظ على الكثير من القرى القديمة أنها نشأت على ضفاف الأودية ، وقريباً من الأراضي الزراعية، أو على طرق الحج والتجارة، أو قريباً من الأسواق الأسبوعية، وهناك قرى عديدة في رؤوس الجبال، أو على الهضاب والمرتفعات في الأجزاء التهامية والسروية والشرقية البدوية. وفي منطقة تهامة أمكنة قريبة من الساحل، أو في السهول (الخبوت) القريبة من بعض الأودية الرئيسية أو الفرعية ويصعب أن نخرج بصورة واضحة وكاملة عن تاريخ القرى قديماً وحديثاً من بداية تخطيطها ، ثم استكمال جميع مرافقها، إلا أنه يغلب عليها بعض الملامح الرئيسية ، مثل:

أ- صغر المساحة التي تقوم عليها منازل القرية القديمة، ولا يوجد تخطيط معماري سليم لبناء البيت، إنما يُتخذ موقعاً عشوائيًّا ثم يقام عليه أبنية تتفاوت في المساحات والمرافق وعدد الحجرات. فالأسر الفقيرة تكتفي ببناء غرفة أو غرفتين من الطين والحجارة، أو من الطين. أو عشش من أغصان النباتات الصغيرة والكبيرة، أو خدور أو خيام من الشعر. وفي بعض القرى قصوراً أو حصوناً ترتفع بضعة طوابق، وأصحابها من شيوخ القبائل والأعيان والوجهاء وأصحاب الثراء والمال. وفي المدن أو القرى الكبيرة أنشئت أبنية لبعض المؤسسات الإدارية قبل العهد السعودي وخلال النصف الثاني من القرن(14هـ/20م)، وأكثرها مستأجرة من بعض السكان. وقد اطلعت على العديد من الوثائق الحديثة التي تذكر بعض المقرات الحكومية الرسمية أو المستأجرة في مدن أبها، وخميس مشيط، ونجران، وبيشة، وجازان، وأبوعريش، وصبيا، والقنفذة، والطائف خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الهجري الماضي. ثم تزايدت الأبنية الحكومية من تسعينيات القرن الماضي، وخلال هذا القرن (15هـ/20ـــ21م) حتى أصبحت الكثير من الإدارات الرسمية في مقرات حكومية.  

ب تختلف القرى القديمة عن العمران الحديث. فجميع مواد البناء قديماً محلية من الحجارة، والطين، والأشجار   والشجيرات. والأيدي العاملة من أهل البلاد أنفسهم. أما الأحياء أو الأبنية الحديثة فأغلب الحرفيين من الوافدين، وجميع المواد مستوردة من داخل المملكة وخارجها. ودورب القرية التراثية ضيقة وصغيرة، وأبنيتها متلاصقة، والمسجد يتوسط كل قرية. أما العمارات الحديثة فمساحاتها واسعة، ومرافقها متعددة،   وشوارعها فسيحة، والأبنية كبيرة وغالباً تتكون من دور أو أدوار عديدة حسب موقعها، ومكانة أصحابها، والأهداف من تشييدها. وتاريخ تطور العمارة من بيوت قديمة وقليلة وصغيرة ومتواضعة إلى عمارات حديثة وكبيرة، أو من قرى شعبية محدودة إلى مخططات وأحياء حديثة ومعاصرة فقد أخذت هذه الرحلة بضعة عقود، وكان لتخطيط الدولة للنهضة التنموية المادية الحديثة الأثر الأهم والأكبر في هذا التحول المعماري في أرجاء المملكة، وتهامة والسراة فازت بالنصيب الأوفر في هذا الميدان.    

ج- أقول إن هناك موروث لغوي وتراثي كبير له صلة مباشرة بالتركيبة البشرية والعمرانية، وكيفية حياة الناس في القرى القديمة، ثم تدرجهم الحضاري في بناء مرافقهم المعمارية، وما عاصروه قديماً وحديثاً من تحولات في أنماط الحياة المعيشية، وكيف كان وضعهم في تلك المستوطنات التراثية الصغيرة والمحدودة في إمكاناتها، ثم صاروا يسكنون بيوتاً حديثة واسعة وفارهة في عمرانها، وأثاثها، وخدماتها، وديكوراتها، ومرافقها المتنوعة. وهذا أنتج الكثير من الثقافات والاصطلاحات المحلية أو المستوردة، أو المختلطة بين القديم والحديث . وهذا التاريخ، أوجد حراكاً علميًّا ومعرفيًّا جديراً بالاهتمام من قبل المؤسسات الأكاديمية والمتخصصين في علوم اللغة واللسانيات، والتاريخ والحضارة، والجغرافيا وعلم الاجتماع وغيرها من المجالات العلمية التي لها صلة مباشرة بهذا العالم التهامي والسروي.  

د- زرت ووقفت على منازل وقرى قديمة في نجران، وجازان، والباحة، وعسير، والقنفذة، والطائف. كما شاهدت عشرات الأحياء والمخططات، وأنواع العمران الحديث والمعاصر في البلاد نفسها. فوجدت الجهل والأنانية والنكران عند معظم السكان للقرى والتراث العمراني القديم. وهرولتهم تجاه الحداثة والتمدن العمراني. فالأكثرية تركوا منازلهم وقراهم حتى تحولت إلى خراب وركام مندثر، وإذا سألت بعضهم قال هذه قرية الآباء والأجداد، لكنه لا يعمل أي شيء نحو ذلك الموروث العمراني الذي شيده الأوائل بكل صعوبة، بل بعضهم تفننوا حسب استطاعتهم في البناء والإبداع. وفريق آخر من الناس يقوم بهدم ذلك الموروث واستبداله بعمران حديث، مع أن بعض العمارات القديمة لا تخلو من فنون معمارية محلية من صنع أهل البلاد.

هـ - تطور أحوال الناس الحضارية، ثم انتقالهم إلى أبنية جديدة وحديثة جعلتهم ينظرون إلى العمارة القديمة بالازدراء والإهمال، وبعضهم يصف عصر السابقين بالتعب والشقاء، وإن الذي خلفوه انتهى زمانه، ولا حاجة إليه . ومن يؤمن بذلك ويعتقده فإنه للأسف لا يستشعر الأصالة والقيم التي قامت عليها تلك المنازل والقرى القديمة، بل يتنكر لجزء مهم من تاريخ وحضارة الأجيال الطيبة العصامية. وللأمانة إنني شعرت بالحزن والغربة عندما زرت بعض القصور والحصون والمنازل في السروات الممتدة من قحطان إلى زهران، والذي زادني حسرة وألماً عندما التقيت بالكثير من الأعلام في هذه البلاد، وسمعت من بعضهم العبارات والاصطلاحات غير الجيدة تجاه هذا التراث والآثار المادية التي مازال بعضها يشهد على صفحات مشرقة من تراث وتاريخ الأجداد. كما أنني حضرت العديد من الندوات والاجتماعات واللقاءات التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتراثنا العمراني القديم، فوجدت وسمعت الكثير من الرؤى والمقترحات الجيدة، لكن آثارها تتوقف عند تقديمها من على منابر تلك المؤتمرات أو اللقاءات، ولا تجد من يترجم بعض التوصيات النافعة إلى واقع ملموس.  

(*) إذا كنت وثقت بعض الشذرات عن تاريخ القرية وبخاصة في الجانب العمراني، فمازال هناك الكثير من الأنماط العمرانية القديمة والحديثة ذات الصلة المباشرة بالقرية، أو الأحياء، أو المدينة (المدن)، وغيرها من التركيبة الجغرافية والبشرية في أرجاء الأوطان التهامية والسروية، وفي النقاط الآتية أذكر لمحات من ذلك:  

١ - إن العمارة السكنية الأكثر انتشاراً قديماً وحديثاً. فالأفراد أو الأسر في أي زمان ومكان يحرصون على بناء منازل يسكنونها وتقيهم مشاكل الحر والبرد وغيرها من نوائب الدهر. والمتأمل في عموم قرى السروات وتهامة القديمة التي مازالت ماثلة للعيان سوف يعرف مواد بنائها، وطرق هندستها، ومرافقها الرئيسية والثانوية. ومن خلال حياة أهل القرية أو القرى وتعاونهم وتكاتفهم قام الكثير من الأبنية المختلفة في مواضعها، وأهدافها، وطرق استخدامها. فهناك أزقة (طرق) صغيرة تربط بين بيوت القرية، أو بين القرى المتقاربة. ومساجد القرى، والآبار، والمدرجات الزراعية، والأحمية، والمقابر، والأسواق الأسبوعية، وبعض القصور أو الحصون داخل القرى وخارجها. وكل هذه العمارات كانت صغيرة ومحدودة في البوادي وبعض الأرياف، لكنها أكثر وأفضل في المدن والحواضر الكثيرة. وجميع موادها في السابق محلية، والأيدي العاملة من أهل البلاد أنفسهم حتى تسعينيات القرن(14هـ/20م). ثم تدرج التطور المعماري من نهاية القرن الهجري الماضي، ومر بالعديد من المراحل في التخطيط والتحول التاريخي الحضاري.  

٢- دخلت البلاد (تهامة والسراة) مراحل التحول العمراني الحديث الفعلي من منتصف التسعينيات في القرن الهجري الماضي، وكان للدولة الدور الأساسي في دعم وتطوير هذا الميدان، فأغدقت على أهل البلاد القروض والمساعدات حتى تمكنوا من بناء بيوتهم الحديثة، وعملت خلال الأربعين سنة الماضية (403 ــــ1444هـ/ 1983ـــ2023م) على تطوير البنية الحضارية التحتية، فشقت الطرق الصغيرة والكبيرة، وشيدت الكثير من الأبنية والمقرات الحكومية، وبنت المطارات، والموانئ، والسدود. ودعمت وشجعت الحياة الصناعية والتجارية والسياحية والتنموية في كل مكان. هذا الذي عرفته وشاهدته وأنا أتجول في ربوع تهامة والسراة من عام (1396هـ/1976م) حتى وقتنا الحاضر(1445هـ/2024م). ففي هذه العقود القليلة تغير وجه البلاد عمرانيًّا، وفي كل المجالات الحضارية.

٣- إن كتابة فقرات قليلة عن هذه الجزئيات غير كافية، لأن كل قطاع عمراني (سكني، وتجاري، وتعليمي، وديني، وصناعي، وسياحي، واجتماعي، وعسكري، ومدني، وبري، وبحري، وجوي، وغيرها من الميادين) جدير أن يكتب تاريخه من عام (1390هـ/1970م) إلى الوقت الحالي في عدد كبير من الرسائل الجامعية، والبحوث والكتب العلمية.(والله ولي التوفيق).

وسوم: العدد 1130