على باب الجنون

لطفي بن إبراهيم حتيرة

لطفي بن إبراهيم حتيرة

[email protected]

على باب الجنون.. تصلب الأحلام.. تصلّب الأماني وتقطّع من خلاف.. تجرّف الجنان.. تسحق البساتين و تنهب الأغصان.. يسرق العنب ويعصر خمرا لحاملي الرّايات و لابسي التيجان.. ويشرب الغلبان "عصير النّخل" المخمّر تحت الشّمس الساعة والساعتان..

ويمضي يصرخ ويغنّي.. تحت الرّمانة في اللّيل ..آه يا ليل.. آه ياعين.. يبحّ صوته.. يجفّ ريقه.. تموج الأرض تحته وتمور مورا فينهار فيسقط كجدار على جرف هار.. يبكي.. يصرخ.. يبحث عن نفسه.. يبحث عن أمّه وأبيه وطفله وأخيه.. لا ينفع اليّوم مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.. يبكي ويبكي ويصيح و يعيّط ويمضي ويجري ولا يلتفت إلى ذيله.. إلى أين تمضي؟ إلى أين تهرب وكلّك يسقط وينهار.. أنت السارق.. أنت الكاذب.. أنت المنافق والمخادع والمراوغ.. أنت الأبله والأقرع والأجدع.. قمّ يا مسكين.. قم يا جدّي الصغير ويا طفلي الكبير ويا دودة القزّ والخزّ و الحرير.. قم يا غبي قم يا صبي يا فأر المخابر ويا قطّ المزابل ويا قرد الوالي وعصا الشّرطيّ.. عيناك بلا رموش.. شفتاك كحجر منقوش.. أنفك كرأس العلّوش.. وجهك يحتاج إلى رتوش.. تنام مرعوبا.. مركوبا.. مقلوبا ومغصوبا.. وتصبح  رجلا  مفعولا به  وفاعل مبني و فاعل منهار.. وفاعل مجهول وفاعل معلوم ومعروف.. يا لعارك.. ويا روعة عارك.. منبسط أنت حصيرة منبسطة تدوسها أقدام مكعّبة.. براميل متحرّكة.. مترهّلة متدلّية.. يا مسكين.. أنت مسكين ظهرك تقوّس.. وتقوقس..

على باب الجنون.. يقف محزونا.. يقف حزينا.. يقف يتطلّع إلى الغيوم.. لا أمطار اليّوم و لا مطر.. ياغيم العشويّة  ويا ريم الفيّالة.. يا جازية يا هلاليّة.. هز عيونك راهم شبّو فيّا.. عالسبّالة يا وردة.. على الرّملة أقعد أحكيلك.. أنا الموجود.. أنا المحدود.. أنا المولود أنا الطّائر بدون طيران.. أنا الطّائر تحت الأشجار وتحت الأغصان.. أنا الطّائر الكسيح.. الجريح.. الذّبيح.. لا يغرّد ولا يزقزق ولا

يسوسن ولا يفرح.. يغرغر و يقرقر و يتأوّه ولا يتفوّه.. فرحي قريب وحزني أقرب.. ألمي في عيني وعيني لا تدمع.. وجعي لي وأنا لست هنا.. بابي مفتوح وبيتي مهجور و سقفي  مرفوع.. أسكن نفسي وإليّ تسكن.. أرتدي وجهي ولا أرتدي سترتي.. الضباب أنا والسراب.. والتراب واليباب وأرض الخراب.. طفل يتيم.. جرح أليم.. لا يلعب ولا يمرح ولكن يبكي ويغضب ويغدو بعيدا ويهرب.. طفل أحمله على ظهري.. أرفعه فوق كتفي ورأسي يريد أكثر وأكثر.. البحر يناديه.. الموج يناجيه.. والبعد يحنّ إليه ويبتغيه.. الطّريق يأخذه فيأخذه.. الطّريق يملكه لأنّه يتملّكه.. الطّريق يسلبه ليته يسلكه.. الطّريق هو الطّريق والغريق فيها غريق..

يتطلّع إلى الغيوم.. يستقبل الهموم.. تمطره السماء ماء.. تسلبه الأرض الدفء والضياء.. تخلعه و ترتد يه.. تفكّه وتركّبه.. تفصله وتمفصله... قطرات المطر زهرات.. فراشات.. ورود وحمامات.. قطرات المطر دمعات.. آهات.. سكرات وسكنات.. قطرات المطر طهر وطهور.. عطر وبخور.. قطرات المطر أحرف من ماء كتبت بماء لتقرأها الأرض ويتلوها الكون والضياء... تحمل نفسك.. تحمل فأسك.. تركب بغلك وتمضي وحدك.. تغرس غرسا.. تبني جدولا وتغلق مغلقا.. تحشّ حشيشا وتقتلع حشيشا.. تجلس قليلا.. تفكّر قليلا.. تنظر قريبا وبعيدا.. تشعل سيجارة تطير شرارة تحرقك وتحرق الغابة.. يفرّ الطّير.. يفزع البغل ويهرب.

أنت تجري خوفا عليه وهو يعدو خوفا منك.. تترك الغابة تحترق أتت على الأخضر واليابس.. من فعل هذا؟.. لماذا فعل هذا؟..

قال لك الماء.. الماء.. أفزعك.. أفجعك.. كنت تغفو.. كنت تحلم وتتألّم.. لا نار و لا حطام.. البغل هناك تحت الخلطاية  يلوك أحاديث أيّام زمان.. ولا أحد بقربك كنت وحدك.. جمعت الحشيش في العديلة  وركبت البغل ورجعت وحدك.. أغربت الشّمس وطافت محمرّة مصفرّة.. ثم ذابت في البحر وانطفأت.. أوقد شمعة فالظلام وحشة تنخر القلب وتحفر في الفؤاد سراديبا وأنهارا.. أرسم قمرا يداعب الأشجار.. يصافح المّوج والبحار.. ونم في أحضان الغربة والقفار.. نم بردان.. جوعان.. واحتضن خيال سلوى أو نجوى أو معزة..

تعرى وتقرفص ومدّ رجليه وكفّيه.. تمطّى وتمطّط ونظر إلى الباب بتلصّص.. هي هناك تملأ الماء تغتسل.. طرقت الباب ..

فرك عينيه.. مسح ساقيه.. لبس وخرج.. ذهب إلى سبّالة الماء واغتسل.. ناولته قفّة فيها طعامه وخرج..

مسكين يتألّم.. مسكين يتهشّم..  مسكين يجرّ رجليه في نعليه.. يمدّ يديه يبسط كفّيه..