بابل العظيمة

مادونا عسكر

أتراكِ حاولت مجدّداً بناء برج عالٍ رأسه السّماء، أم تراكِ لبست الأرجوان وسلّطتِ عرشك على العالم وأهملتِ العرش الأعظم؟ بابل العظيمة، ها إنّك متبلبلة من جديد، تهوين وتسقطين وتمّحين وكأنّك خطأ فادح في كتاب الزّمان تمحوه يد عبثيّة وعقل مخدّر فارغ، مهووس بنشر شريعة إله أسير الشّريعة.

رسمت الأساطير تنّيناً يخرج من البحر ويتجرّع الوجود ويلتهم بناره جمال الأرض. قادها الخيال إلى وصف تداعيات الشّرّ والظّلم والقهر، وما علمت أنّ للتّنين أوجه بشريّة أشدّ قباحة وفظاعة من وهم  يتنفّس ناراً ويلقي بحممه على المسكونة فيهلكها.  أرادت أن تدرك علّة الشّرّ ولو بخطوات أولى للعقل وتردعه وتبدّده ولو بحفنة صور وتعابير تنقذ البشر من بشاعتهم، وما أيقنت أنّ لا شيء يردع الشّرّ إلّا جرح الحبّ. 

يبدو أنّ العالم القديم يتلاشى حقّاً وتتبدّل معالمه، ويغرق في جحيمٍ قصّرت كلّ الكتب الدينية في وصفه ولم تتمكّن حبكة الأساطير من إدراكه. ليتنا لم نحيَ حتّى هذه اللّحظة الّتي نبصر فيها انبعاث آدم المتكبّر والمتعجرف والحقود. ليتنا رحلنا قبل أن نعاين مدى بشاعة الإنسان الملطّخ بالشّراهة والفجع الدّمويّ. يهرع إلى شجرة معرفة الخير والشّر وينتزع ثمارها بالقوّة ويطيح بالمحبّة ويجرف الخير ويدفنه حيّاً في تراب غريب، يبتلع الحضارة ولا يشبع، ويرتوي من الدّم ولا يُشفى غليله.

بابل العظيمة، ترى من سيعيد حفر آلاف السنين، وأيّ عشب سيُنبت مقاومة تصرخ في وجه الصّنميّة الحديثة.  من سيطهّر شوارعك من قذارة أقدام تدوس الشّمس وسحر الحضارة ورفعة الكلمة ويُرجع إليك بهاء الشّعراء وسلام الأنبياء وأصالة التّاريخ المحفور بيد الأجداد.

ما زال صوت " هابيل" يصرخ إلى القدير من عمق الأسى ويملأ  صراخه الأرض كلّها، وتفوح رائحة دمه حتّى تطال أعالي السّماء. وما برح " قايين " يتجاسر على محو صورة الخير الأعظم ويتنكّر لأخيه، ويقتل ويذبح ويدمّر ويسحق ويتلذّذ بالتّنقيب في جوف الأرض باحثاً عن مكان أرحب لضحاياه. وما انفكّ يختلس ألوان الكون الجميلة ويقبّح ريشته ويلوّن الحياة بالأحمر المميت. ولا يكتفي ولا يرتدع، ولا يُهدّئ الوحش الكامن فيه أيّة لعنة!  بابل العظيمة تئنّ وتهوي، والعالم يقلب صفحات آلاف السّنين كمن يطالع صحف الصّباح سريعاً. فالوقت لم يعد يتّسع لشجاعة الضّمير، ورهبة الإنسانيّة.