لا تحرّرَ دون كسر الهيمنة الغربية

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

يواجه سؤال ملحّ كل متابع لربيع العرب: لمَ يمرّ الربيع العربي بمخاض عسير؟ والجواب: لأن حقيقته أنه مواجهةُ هيمنة الغرب الذي أناب عنه وكلاءَه من مستبدي العرب. لا يعني ذلك أن الغرب هو من دبّر الثورات العربية لزعزعة استقرار الدول العربية، وإدامة حالة الهيمنة والتغلب كما يرى بعض المتتبّعين، وإنما نرى أن الثورات العربية تَحرُّكٌ ذاتي ضد الاستبداد وسعيٌ لاسترداد  الحرية والكرامة التي هدرها الحاكم العربي. ولماذا يسعى الغرب إلى زعزعة استقرار الدول العربية والحال أنها تابعة له، تأتمر بأمره ويردعها نهيُه؟ ثم هل يضمن الغرب تحقيق أهدافه من خلال ثورات الله وحده يعلم إلى أين منتهاها؟ قد يتمكن الغرب من إشعال الثورة لكن لا شيء يضمن قدرته على توجيهها إلى حيث يريد. لكن من المؤكد أن للغرب يدا في صناعة الثورات المضادة. لا نحتاج ذكاء خارقا لتقرير ذلك ونحن نرى أن أبطال هذه الثورات هم عملاء الخارج وسدَنته الذين أوكل إليهم مهمة الإلحاق والتبعية، وتركيع البلاد والعباد عبر اتفاقيات مجحفة وقوانين جائرة.       

إذا وضح هذا الأمر تبيَّنا أن السيناريو المصري لم يكن مفاجئا، وإنما يكاد يتطابق مع السيناريو الجزائري بعد أن فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية ساحقة في الانتخابات التشريعية سنة 1991م، فألغى الجنرالات الانتخابات بعد أن أزاحوا الرئيس الشاذلي بن جديد حين أرغموه على الاستقالة، وجعلوا السلطة في يد المجلس الأعلى للدولة التابع للعسكر. أما سبب هالة ما يقع بأرض الكنانة فأهمية البلد الجيوسياسية، ثم تبوّءُ الإعلام مكانة لم تكن له من قبل. إذ أصبح أقرب إلى المستحيل أن يقوم المستبد بتعتيم إعلامي وتزوير للحقائق، ثم إخراج الأحداث كما يشاء ويهوى. ولو استطاع ذلك بعض الوقت لما قدر أن يمدّ حبل الكذب القصير بطبعه. لكن هنالك دائما فروق وتميّز على رغم تشابه الأحداث في أسبابها ونتائجها. ولعل أبرز الفروق اثنان:

الأول: استلم الإخوان المسلمون سلطة صورية مدة عام ثم انقلب عليهم العسكر، أما الجبهة الإسلامية للإنقاذ فانقلب عليها العسكر قبل أن تستلم السلطة، بل قبل إجراء الدور الثاني من الانتخابات التشريعية حين تيقّن الجنرالات أن الأمور تسير إلى حيث لا يريد العلمانيون والفرنكفونيون وعملاء فرنسا الذين لا يرون حياةً للجزائر إلا في كنف فرنسا واستراتيجية التغريب.

الثاني: اضطرار إسلاميي الجزائر إلى المواجهة المسلحة في حين تحمّل إسلاميو مصر الضيم، ولا يزالون صابرين على الأذى إلى حد الساعة.

لكن الجامع بين الحالتين الجزائرية والمصرية هو التدخل الأجنبي، والتحكم الخارجي الذي يدير المعركة عن بعد. لا يفوتنا أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ساند انقلاب يناير 1992م دون خجل، وكان الإعلام الفرنسي يدعم الانقلابيين والاستئصاليين دون حرج. ولقد وقفت فرنسا موقف محامي الشيطان لتقنع صندوق النقد الدولي بإعادة جدولة ديون الجزائر الخارجية في 1994، تماما مثلما وقفت الإمارات والسعودية مع انقلابيي مصر تَعِدان بالمنّ والسّلوى. ثم جيء بدُمى مدَنية لحجب حقيقة المشهد الذي صنعه جنرالات الجزائر بقيادة خالد نزار. والحقيقة أن الجزائر منذ استقلالها الصوري وهي رهينة في يد ثلة من العسكر رُبّيَت على عين فرنسا، حتى قيل بحق: لكل دولة جيش، ولجيش الجزائر دولة. وما قام به خالد نزار هو ما يعيد اقترافه الفريق أول عبد الفتاح السيسي. إن مباركة الغرب لانقلاب السيسي لا يحتاج إلى دليل، وحسبنا أن نتأمل فرح الكيان الصهيوني بما جرى والثناء على الانقلابيين، لكن الولايات المتحدة الأمريكية يؤرقها ألا تستطيع الجمع بين النقيضين: مساندة انقلاب عسكري أطاح أولَ حُكم يأتي بانتخابات نزيهة، وإدانة انقلاب هو السبيل لضمان هيمنتها ومصالحها ورعاية أمن الكيان الصهيوني. ولذلك لا مناص من إدارة اللعبة خلف الكواليس. ولأن الانقلابيين عبيد بما لا مزيد عليه فإن لديهم قابلية لتحمّل الأخطاء والتبعات وحدهم دون أن يجرؤوا على إدانة سيدهم أو توريطه، فهم بحق عبيد مأمورون. ظهر الموقف الأمريكي منذ لحظة الانقلاب الأولى متذبذبا منافقا، لكن التذبذب يصير تأنيا وحكمة للنظر في القضية ثم النطق بالحكم: انقلاب هو أم ليس بانقلاب؟

في كل من الحالة الجزائرية والحالة المصرية حضر العامل الخارجي، متبجّحا في الجزائر مستترا بعض الشيء في مصر. ولئن سعت فرنسا إلى إبقاء تبعية الجزائر وذلّتها فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا يسرّها أن تخرج مصر من قبضتها ولا شك. السيناريوهان بصفة عامة وجهان لعملة واحدة: عدو خارجي متربص مستعد لأن يدوس المعاهدات الدولية وشعارات حقوق الإنسان وحق تقرير المصير... من أجل أن تظل دويلات العرب ملحقة لمركز الهيمنة، دويلات تابعة مهيضة الجناح سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعلى كل صعيد، تنخرها عقدة النقص وتستمرئ جلد الذات. قد تُبدي دول الهيمنة بعض المرونة تجاه من تصفهم بالإسلاميين المعتدلين وحقيقة الأمر أنه لا ثقة لها بالإسلاميين عموما، المعتدل منهم وغير المعتدل، لأنها تعلم علم اليقين أن المشروع الإسلامي في جوهره مشروع تحرر.      

التبعية للخارج والرضوخ لإملاءاته هو ما جعل حركة النهضة التونسية تصنّف أنصار الشريعة على أنه تنظيم إرهابي، ثم تتفانى في الدفاع عن "إسلام تونسي" استجلابا لرضى الخارج. إنها ذات التبعية والعبودية التي جعلت "حكومة إسلاميي المغرب" تساند حرب فرنسا الجائرة على مالي، وكأن دافع الحرب حميّة وغيرة على أهل الصحراء على بُعد الشقة واختلاف العِرق والثقافة والدين، وليس إبقاء على وضع التخلف والتكفف والاستلحاق. وكأن المسألة حرب على الإرهاب فعلا لتحرير أهل أزواد من "أنصار الدين" ونشر الديموقراطية والعدل والحرية، لا قضية شركة طوطال ومناجم اليورانيوم ورؤوس أموال وثروات وسرقات.

أما في الحالة السورية فظل العدو الخارجي متربصا أكثر من سنتين وهو يرى الفتك والقتل والدمار، ولا شيء يعنيه من ذلك أو يؤرق ضجعته سوى انتصار المجاهدين وإمساكهم زمامَ الأمور، فلا ينعم الكيان الصهيوني حينها بأمان، ولا سبيل للتبعية والإذلال. ومناورات الغرب السياسية بالخارج ومؤتمراته كلها كانت لأجل ألا يصير أمر البلاد بأيدي من ينتصرون للمشروع الإسلامي حقا وصدقا، ويأبون طريق الذلة والتبعية. ولمّا نفد صبر الأمريكان وأصبحوا يستشعرون مكامن الخطر إذا هم يلوّحون بتوجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد بعد استخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة، ولا يَبعد أن يكون الأمريكان هم من أوعزوا إلى الأسد في استعماله باتفاق مع الروس، مثلما أوعزوا ذات يوم إلى صدام حسين في غزو الكويت، ثم كان بعد ذلك تدمير العراق. ولا ريب أن لهم في الضربة العسكرية مآرب أخرى، وعلى رأسها إضعاف المجاهدين مادام أنه من العسير القضاء عليهم. وليست هذه أول مرة يَخبر فيها الأمريكان المجاهدين، ولنا أن نتذكر ونحن بصدد بيان التحكم الخارجي في دويلات العرب مطالبة الأمريكان حكامَ العرب بغض الطرف عن الشباب الراغب في الجهاد في أفغانستان، حين كان ذلك يصادف هوى الغرب في التصدي للاتحاد السوفياتي.

ولذلك لا يراودنا شك في أن التدافع القائم في دويلات الربيع العربي تدافعٌ بين إرادة تحرر وإرادة هيمنة. ومن ثم فإنه لا سبيل لتحرر المسلمين والعرب وامتلاكهم قرارهم السياسي إلا إذا تحرروا من الهيمنة الغربية، وثاروا على معسكر الشر الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. إن الثورة على الهيمنة الخارجية شرط للثورة على الاستبداد الداخلي.

أنعجب الآن من تأخّر النصر في الزمن الأمريكي؟ وهل نستغرب لمَ وجب أن يكون مخاض العرب والمسلمين عسيرا؟