سنضحك.. سنضحك كثيراً

يسري الغول

[email protected]

... وبعد موته، جاءوا به من المقبرة، زرعوه أسفل الطاولة، تحت ذلك المقهى الذي يرتاده السكان، ثم طلبوا منه أن ينقل الأحاديث التي تدور بين العامة هناك.

كأني هكذا قرأتها، لأنها كباقي حكايات زكريا تامر، غريبة، مجنونة، تأخذ بالقارئ إلى عالمه الفنتازي الصارخ، الذي يجمع الأضداد، الأموات والأحياء، الماجنين وأرباب الأنظمة، المغفلين والصامتين. يرسم بقلمه لوحات المعاناة والألم التي ما يزال يعانيها المواطن العربي السوري تحت قمع النظام وبطشه، فاستخدم زكريا تامر أسلوبه الخاص الذي يطغى عليه الرمزية والهجائية الساخرة، بطريقة مستحدثة جعلت منه صاحب مدرسة جديدة في القصة القصيرة. ولعل الناظر لقصص زكريا تامر سيلمس المعاناة رغم طرفتها، ففي قصة "سنضحك، سنضحك كثيراً" على سبيل المثال، يقول: "في يوم من الأيام، اقتحم رجال الشرطة بيتنا، وبحثوا عنّي وعن زوجتي، ولم يتمكنوا من العثور علينا، لأنّي تحوّلت مشجبًا، وتحوّلت زوجتي أريكة يطيب الجلوس عليها. وضحكنا كثيرًا عندما خرجوا من البيت خائبين." الناظر لتلك القصص يعتقد منذ الوهلة الأولى أنها أعمال بسيطة لا روح فيها أو حياة، تفتقر للمنطق، وهو لا يدري أن حالة القمع والبؤس والمعاناة صنعت من تلك الحكايات مدرسة، حيث استطاع تامر أن يوظف تلك الأحداث في قصص هجائية ساخرة بين الفنتازيا والواقع لتعطي مدلولاً عن حجم المعاناة التي يعانيها الشعب السوري منذ نشأة الكيانات والأنظمة القمعية بعد الاستقلال والتحرر.

إن سوريا اليوم، تعاني ويلات القتل والترويع، ويبدو أنها ستدخل في مستنقع حرب لا رجعة عنه، كأنها تقول، لا يمكن للرمزية أن تنفك عن أبطالي، وكأنها تبكي ألماً حين يفتقد كتابها وأدبائها القوة ليقولوا ما يشاءون دون خوف من رقيب. فسوريا التي أنجبت محمد الماغوط الشاعر والمسرحي المبدع، الذي هاجم الأسد في مسرحية كاسك يا وطن، والتي قام بتأدية دور البطل فيها دريد لحام، أنجبت أيضاً سعد الله ونوس صاحب مسرح التسييس، وأنجبت زكريا تامر أحد أعلام القصة العربية، وأدونيس الشاعر العالمي الذي يعرفه معظم شعراء أهل الأرض وغيرهم الكثير.

وأختم بقصة انتظار امرأة التي قال زكريا تامر فيها: "ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمّه، وشهق الطبيب مذعورًا، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتَّتت الممرضات في أروقة المستشفى. ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل. فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنّه ربح أكثر مما خسر. 
ولم يكفّ فارس عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعًا جديدًا من البشر آملاً ألاّ يطول انتظاره".

إن فارس ينتظر المعجزة كما ينتظرها كثيرون اليوم في سوريا، حتى لو كانت بغير رأس لوقف الدم والأشلاء التي تهرق هنا وهناك، دون أدنى رحمة من كبير المجرمين الذي علا وتجبر، ظناً منه بأنه ملك الغابة، وهو لا يعدو عن كونه فأر، يستأسد على شعبه بالكيماوي، ويجبن عند الاحتلال الصهيوني الذي اغتصب الجولان منذ أمد بعيد، ولا وقت مناسب للرد حتى اللحظة.

نعم، سنضحك، سنضحك كثيراً حين يزول الطغاة وتعود اللحمة للشعب العربي الكبير، ونتحرر من الحدود والسدود، فدمنا واحد وعدونا واحد.