النطواط

عقاب يحيى

ولد في عائلة شبه رياضية.. شبه متفتحة.. شبه تجارية.. شبه مثقفة. شبه مدينية . شبه ريفية.. لكنها تتقن رياضة القفز في الهواء لمسافات مثيرة.. دون تأهيل وتدريب .. وإنما بالفطرة..وفي عصر سباق محموم في كل شيء.. والسرعة.. أبرز سماته..

السرعة في الأكل واللبس، ونوعية الأكل، والهندام. والسرعة في الاطلاع المسطّح على كل شيء، والتسوّق، والبحث عن الأرخص وأماكن وفرص التنزيلات، والسرعة في اقتناص الفرص المتاحة. أو التي يتوهمون أنها فرص اللقطة..

كانوا يخشون السياسة. يمجّونها ويحاولون الابتعاد عنها، ويؤمنون بالمقولة الذهبية : امشي جنب الحائط وقل يا ستار استر.. وكان الوالد، ومعه الزوجة يرددان معزوفة حفظها الأطفال عن ظهر قلب : اليد التي لا تقدر عليها بوسها وادعو عليها بالكسر.. وحين حضور "مقام" مهم.. يعتبرونه هم كذلك، كانت جملة العين لا تعلو على الحاج تتردد لا كلل ولا ملل..

لكنهم، ومن حيث لا يدرون وجدوا أنفسهم غاطسين في أجواء سياسية، ثم مرغمين عليها، ثم فاعلين فيها..فصار الأب يردد مقولته الشائعة : التجارة شطارة، والشطارة أن تعرف السوق وكيف تبيع وتشتري، وكيف تتصرف مع أصحاب النعمة.. وكيف تدخل شرايينهم دون أن تمنحهم نقطة من دمك..

ـ وباختصار.. باتت عائلة النطواط من أشهر العائلات المالية والسياسية.. والنافذة...

ـ كان شامل النطواط ـ بكرهم ـ يحمل الكثير من جينات تلك العائلة منذ الطفولة، ويملك نهماً وطموحاً لا حدود لهما، وقدرات خارقة على التلون وجمع المواقف المتناقضة، والمصالح المتعارضة.. الأخلاقية منها وجميعها.. لكن مشكلته أنه كان يعاني عرجاً في قدمه اليسرى نتيجة شلل في الطفولة ترك اثره البيّن بشيء من عرج...فرض عليه بذل جهود ضخمة لإخفائه وتجاوزه..

عرج القدم اليسرى كان يمنعه مثلاً من القفز في الهواء المسافة التي يطمح إليها.. والتي يعتقد أنه قادر عليها.. حتى أنه كان يرسم دوائر ومربعات وأشكال مختلفة لنوعية قفزاته.. وقد راح يدرّب نفسه بقسوة على أنواع جديدة من القفز والبرم والفتل.. حتى الدوخة والتدويخ..فأتقن كثير الحركات التي يمكن القول أنها إبداعه، وماركة خاصة به.. منها مثلاً : ان ينتقل في القفزة الواحدة من موقع في اليمين إلى اليسار، وبشكل حاد، وملفت.. وكأنه يطير في الهواء، أو الجمع بين موقعين متناضين . مرتفع ومنخفض في آن.. وكانت إعاقته تساعده في ذلك.. فيردد داخله : سبحان الله.. كل ذي عاهة جبار.. ويمكن الإقرار أن شامل النطواط كان جباراً بالفعل، وقفّازاً من نوع أسطوري.. حيث يمكنك أن تجده في أكثر من مكان مختلف، وبين ناس لا يجمعهم سواه.. حتى قال البعض، واقسم.. انه رآه في مكانين بآن.. وبعضهم أطلق العنان لتصورات عن أنه مسكون، وأن في تركيبته اسرار لا يعلمها إلا الله ..

ـ كان يقرف السياسة وأهلها..ويعتبرها نفاقاً، ومناورات، وكذباً، ومصالحاً، وصراعات على الكراسي، لكنه يمارسها بكل تلاوينها، ومع مختلف أطرافها، خاصة مع أوساط الحاكمين وضباط الأمن والنافذين..وحين صار عضواً في مجلس الشعب لم تتعير نظرته.. لكنه بات يحتفظ بها داخله كسرّ من اسراره الخاصة..

ـ في زمن انتشار اللحية الأنيقة ـ على زمن الفقيد ـ اشتهر بلحيته الجميلة.. ثم حولها إلى " غيفارية" بعد أن أعجبته بعض النساء المحسوبات على اليسار ، وبعض الجمل التي صار يرددها عنواناً على أنه مثقف من طراز خاص، وأنه التهم ملايين الكتب منذ نعومة أظفاره، وقرأ مجلدات ماركس، ومؤلفات لينين، وغيرهما وهو ما يزال يافعاً.. ووضع ملاحظات عميقة عليها، واستنتاجات في الصميم.. إلى درجة أنه لما سقط الاتحاد السوفييتي وبقية الدول المتحالفة والتابعة له.. لم يتفاجأ لأنه " تنبّأ" بذلك من زمان..

الشيء المهم أنه بدأ ينحو منحى دينياًن وباتت اللحية هذه المرة ملتصقة بموضوعها، وليسا مجرد زيّ، أو زينة..وأخذ يدّرب نفسه على وضع مسافة بينه وبين صحبه في النظام.. بالتدريب على قفزات عكسية يمارسها للوراء، وكان هذا الإنجاز عبقرياً بالفعل ،حيث تمكّن، ودون النظر للأمام أن يحقق دورة كاملة بقفزة واحدة..

ـ لكنه ملّ التكرار.. والسكينة، والمألوف.. فعاد إلى قفزات باتجاه اليسار وجها أكثر مرونة، وتمنحه بحبوحة من الحرية.. خصوصاً إذا ما طعّمهت بتلك الجمل المثقفة.. عن الديمقراطية، والعلمانية، وحقوق الإنسان..

اليوم.. يعتبر شامل النطواط.. أحد أهم منظري الثورة وفرسانها.. والذي تجده في كل موقع، وخندق، وتشكيل، ومؤتمر، وحزب، ومبادرات.. وهو عضو نشيط لا يبخل بماله وخبراته المهمة، ولا بيساريته ويمينيته في تقديم الرؤى والبرامج، وأسلوب القفز الصحيح في المكان الصحيح ..