خسارتنا لبحرنا الذي سبرنا أغواره

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

عراقيون تحملوا أهوال البحر ومزاجه المتقلب, تحملوا بيئته القاسية, أخذوا على عاتقهم تحديد المسارات الصحيحة, التي ينبغي أن تسلكها السفن في طريقها نحو كل المرافئ والبنادر الخليجية, تفننوا في غرس فنارات الاسترشاد في أعماق الممرات الضيقة, نجحوا في تأثيث القنوات الضحلة بالعوامات والإشارات الملاحية, فأبدعوا في نصب نقاط التثليث, وعلامات التسوية على ضفاف شط العرب وخور عبد الله, وفي الجزر البعيدة المتناثرة في هذا التيه البحري الكبير. .

رجال امتزج عرقهم بأطيان الشواطئ الخاوية, ذوت أعمارهم في غياهب الأغوار السحيقة, تبددت أحلامهم فوق الأمواج الصاخبة, غاصت سيقانهم في أوحال الأنهار, فمشوا حفاة الأقدام بين أحراش القصب والبردي وفوق بقايا المحار المتزجج والأصداف المهشمة, خنقتهم رياح (الكوس) المشبعة برطوبة المحيط الهندي, مزقت أجسادهم ملوحة البحر, لكنهم تحدوا الصعاب, وصمدوا بوجه الظروف القاهرة, فتركوا لنا سفرا خالدا, مفعما بالوفاء والعطاء, معطرا بعبق رائحة البحر, منقوشا على مسطحاته المترامية الأطراف. .

كانت سواحل العراق الجنوبية منطلقا لفرقهم الهيدروغرافية, التي رسمت معالم المسالك الملاحية الأمينة من مضيق (هرمز) وحتى (القرنة) حيث اقتران دجلة بالفرات. .

كانوا يلجئون إلى الطرق البدائية في سبر أعماق البحر, تارة يستعينون بالأساليب التقليدية في الاستدلال على إحداثيات المواقع, وتارة يهتدون بالحسابات الرياضية المضنية في حل المعضلات الهندسية, فنجحوا في نهاية المطاف بمسح قيعان الخليج, ثم جالوا في أخاديد دلتا شط العرب, وكانت لهم الريادة في تشخيص ملامح السواحل, والتعرف على الممرات البحرية, ورصد تياراتها المائية, وتدوينها على خرائط كنتورية مؤطرة بخطوط الطول والعرض, موضحة بمقاييس الرسم, فتركوا لنا مكتبة عامرة بالخرائط والمخططات والدراسات البحرية والنهرية. .

استقروا منذ بداية القرن الماضي في مدينة (الفاو), وانطلقوا من هناك في كل الاتجاهات المتاحة لهم, وارتبطوا فيما بعد بسلطة الموانئ العراقية, فرافقوا سفن الحفر المكلفة بتهذيب القنوات البحرية المؤدية إلى الموانئ الواقعة على شط العرب, وأزالوا الأطيان والترسبات الغرينية من قناة الروكا وخور عبد الله, وأنيطت بهم مسؤولية مراقبة تردي الأعماق بفعل الترسبات الهائلة, التي منيت بها شرايين العراق الملاحية. .

رجال واكبوا عمليات حفر قناة (السد الخارجي Outer Bar). وقناة (السد الداخلي Inner Bar). وقناة (مدخل الفاوFao Reach), أسسوا قواعد أبراج فنارات التطابق, حددوا خطوطها الوهمية, واظبوا على صيانة قناة (سد كارونKarun Bar) في مواسم الفيضان, حددوا مواقع الأرصفة المينائية, نشروا مقاييس المد والجزر في الأماكن الحساسة, وزعوا العوامات الملاحية على امتداد الممرات المخصصة للسفن. .

شهدوا ولادة نهر (شط البصرة), فربطوه منذ ولادته بخور الزبير وأوصلوه بخور عبد الله, تحملوا وحدهم تنفيذ مشاريع صيانة السواحل الشمالية للخليج العربي, وكانت لهم الريادة في رصد مناسيب المياه لكل المواسم. .

أحرزوا قصب السبق في الإبداع والتميز, فنالوا ارفع الدرجات المهنية في تخصصهم, شهد لهم العالم كله بحسن الأداء, ودقة البيانات, ورصانة المعلومات.

رجال أفذاذ تعاقبوا على رئاسة الفرق الهيدروغرافية والهيدرولوجية, طبعوا بصماتهم في ذاكرة الطين والماء, فظلت آثارهم شاخصة في منعطفات شط العرب, ومقتربات خور عبد الله. .

هذه سفينة الحفر العملاقة (الحلة) حكمت عليها الأقدار أن تموت واقفة بين البحر والبر, لكنها أبت إلا أن تيمم وجهها شطر الميزوبوتاميا, بينما أدارت ظهرها صوب الثغور الخبيثة, التي تسلل منها الغزاة ليدنسوا أرضنا, ويقتطعوا بحرنا الإقليمي عنوة لصالح التماسيح الغادرة والثعالب الماكرة. .

في البحر مئات الآثار الملاحية, التي تحكي قصة كفاحنا المرير في تعبيد الطرق البحرية فوق المسطحات الزرقاء لحوض الخليج العربي. تجدهم في بوبيان, ورأس المطاف, ورأس لافان, وصيري, وأبو موسى,  وجزيرة خارك, وسيحان, والهارثة, والدورة, والمخراق, والواصلية, واللباني, والصنكر, والسراجي, والمعقل, ورأس البيشة, والهاتف, والقصبة.

ظلت آثارنا حتى يومنا هذا مرتسمة على ضفاف الشواطئ المزدحمة بغابات النخيل, وتنبعث من رمال أم قصر وخور (السقة), وخور (بحرة), و(وربة).

صورٌ رائعةٌ لقوافل المبدعين والمتميزين. اذكر منهم : المساح البحري مهدي موسى, ومحمد الحبوبي, وحسن محمود, الملقب (إنجنير), وعبد المجيد محمد حسن, والكسندر فرجيبيان. ويوسف العامر. .

ولا ننسى هنا ذكر المساحين الميدانيين من أمثال زاير حسن التميمي وزملائه: مرزوق وعبد الرضا والعم عبد الله خطاب, الذين عملوا على سفن المسح (كمالة), و(الشعلة), و(الكوت), و(الأحمدي), و(الإنقاذ), والسفينة (طارق) التي تدرب على ظهرها (فيليب) دوق أدنبرة زوج الملكة إليزابيث وذلك نقلا عن الكابتن فهمي حمود السعدون عن الكابتن سليم الهادي رحمه الله, ورحم تلك الأيام السعيدة التي طواها النسيان, وأحرقتها التجاوزات الحدودية المتكررة على مياهنا الإقليمية. .

ثم تصاعدت وتيرة المسوحات البحرية على يد (فريد يوسف البسام), ذلك الرجل النجدي القادم من قلب الصحراء العربية, فأضاف بخبرته المعهودة لمسات جديدة, أسهمت في توسيع آفاق المسوحات المائية في خضم الكثافة المرورية, التي رافقت الحركة الملاحية شمال الخليج العربي.

ثم جاء من بعده (طالب جاسم محمد) ليكمل المسيرة بخطوات متصلة بجسور الماضي المزدهر, وتلاه (عيسى جاسب الطوب), ثم (عبد الرزاق جاسم), والكابتن مازن خريبط الخيون, ونهض بها فيما بعد شاب طموح, هو الكابتن سمير عبد علي مرزوق. .

كانت سفينتهم التي حملت اسم (الفاو) من أجمل السفن التخصصية, سفينة رشيقة البدن, أنيقة المظهر, مغزلية القوام, تنساب في إبحارها, تتبختر في مناورتها. كأنها يخت ملكي صغير يعوم في فردوس الرافدين, أو عروس سومرية أصيلة مزينة بالأنوار البهيجة, ومتوجة بالصواري المتسامقة, حورية بيضاء تهابها السفن التجارية, وتغار منها النوارس والمراكب المحلية, فخصصت لها سلطة الموانئ العراقية رصيفا معزولا عن بقية السفن الخدمية, خوفا عليها من أن تصاب بخدش بسيط يشوه طلعتها البهية, ثم صارت رمزا من رموز الطوابع البريدية في عدة إصدارات محلية, لكنها للأسف الشديد تنزوي الآن بين السفن المحطمة. ترقد بين الزوارق المهملة على الرغم من ماضيها الحافل بالنشاط الملاحي, وعلى الرغم من احتفاظها بنكهة الأجداد والآباء, الذين ساهموا في تدوين تاريخنا البحري, وأرى انه ينبغي علينا التفكير بجد في إعادة تأهيلها, وتحويلها إلى متحف بحري عائم, يعيد إلى الأذهان تلك الصور الرائعة من تراثنا البحري العريق. .

لقد سبر العراقيون أغوار الخليج العربي كله بضفتيه الشرقية والغربية, العربية والفارسية, ووضعوا العلامات والإشارات الدلالية, وثبتوها بخطوط الطول والعرض بخرائط اعتمدتها الأدميرالية البريطانية قبل ولادة الدويلات النفطية المتبطرة, وقبل طغيان الأسطول الفارسي واستهتاره, وقبل تسلل الأساطيل البحرية الغربية الخبيثة إلى مياهنا الوطنية, وقبل استيلاء الكويت على آخر ما تبقى لنا من مسطحاتنا البحرية المنكمشة نحو الداخل. .

كانت هذه صورة حقيقية من صور المأساة المؤلمة, صورة تحكي فصول المصيبة التي فقدنا فيها سيطرتنا على مياهنا البحرية, وتعكس مراحل تفريطنا بمياهنا النهرية, وتحكي قصة تنازلنا عن عمقنا السوقي في حوض الخليج, وتقوقعنا عند مقتربات موانئنا النفطية. .

والله يستر من الجايات