السلفيون بين النظرية والتطبيق

الموقف من عاصفة الحزم نموذجاً

محمد جلال القصاص

عند أنفسهم يظن السلفيون أنهم يمتلكون الحقيقة كاملةً، وأن السلفية –على المستوى النظري- هي التصور الصحيح للإسلام، وأنها كالإسلام شاملة كاملة، "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، "ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء".

وإن سلمنا بهذا نظريًا، وأن الأمر - على المستوى النظري- لا يعدو اختلافًا في المسميات فإن في التطبيق انحرافات قد تخرج المنتسبين للسلفية عن مظلتها النظرية الشاملة الكاملة؛ ومما يوضح بُعد المسافة بين التنظير والتطبيق عند السلفيين تسليط الضوء على الآداء السلفي في النوازل، ودعنا نأخذ موقف السلفيين في السعودية من عاصفة الحزم نموذجًا.

يصطف السلفيون في السعودية مع "عاصفة الحزم"، والخطاب السلفي في جملته مشجع للنظام الحاكم، يرى أنه يجاهد في سبيل الله، يرى أن النظام يعلي راية السنة على راية البدعة والردة، وأن الأمة الإسلامية من شرقها لغربها جاءت ملبية نداء السنة ضد البدعة؛ مع أن خطاب الدولة لم يتعامل مع إيران من منظور طائفي، ولا يوجد مستوى "أمة" في الخطاب أو الفعل الصادر من النظام السعودي والأنظمة العربية؛ لا "أمة" عربية ولا أمة إسلامية، فقط دول قومية تبحث عن مصالحها. وليتها إذ تبحث عن مصالحها عاقلة تجتمع مع بعضها دفعًا لعدوٍ مشترك يناوشها، وإنما تتواجد كل دولة بشكل منفرد في مواجهة من استباحوا الأمة عسكريًا، وسياسيًا، وثقافيًا، واقتصاديًا،... من الغرب والشرق. 

وإن النظرة الأعمق تبين أن الدول القومية جزء لا يتجزأ من المنظومة الغربية التي تحكم العالم، فهي الصيغة التي فرضها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية على العالم أجمع، وتعمل هذه الدول كمجموعات وظيفية عند الكتلة الغربية الليبرالية الرأسمالية بقيادة أمريكا، فالخطاب السلفي في طريق والدولة من طريقٍ آخر وإلى طريق آخر.

ويتأكد هذا الأمر بطرح سؤال الصراع بأبعاده الستة (قضاياه، أطرافه، مساحة انتشاره، شدته، أدواته، وطرق تسويته إن ثمة تسوية)، وخاصة قضايا الصراع: ما هي قضايا صراع؟، هل الأنظمة الحاكمة التي يصطف خلفها السلفيون يحاربون من أجل الدين؟، أو دفاعًا عن السنة النبوية المطهرة؟، ودعنا نخصص بمثال حتى يتضح المقال:ما طبيعة عداوة الأنظمة الحاكمة لإيران؟!

القضية عند إيران قومية وتستخدم الدين (الرفض/ التشيع) أداة لإقامة مشروع قومي فارسي، والقضية عند النظام في السعودية وباقي الدول القومية تتعلق بالبقاء في الحكم مدة أطول، ويستخدمون الدين وسيلة للدفاع عن أنظمتهم، فالدين عند إيران والأنظمة العربية تابع، وأداة في الفعل وليس فاعلًا أو مفعولًا لأجله. وفي كل مكان من أرض المسلمين شاهد على ذلك، وهذه إشارات لبعض الشواهد:

في العراق: توافقت الأنظمة العربية وإيران مع الغرب على تخريب العراق وتمكين الروافض منه، والتخريب اتجه بالأساس إلى مقدرات الأمة .. اتجه لعامة الناس ممن لا يهتمون بأكثر من مأكلهم ومشربهم ومسكنهم، والحكومات المستبدة التي تعللوا بها  كانوا يدعمونها -هي هي بأم عينها كانوا يدعمونها- من قبل، وما طالبوا المستبدين حال دعمهم لهم بنصرة السنة ولو مرةً واحدة، مع تذكير المهتمين لهم. (أذكر محاضرة سمعتها للشيخ سفر الحوالي في التسعينات ذكر فيها هذا الأمر، ونبه على أن علينا أن نشترط على من نعاونهم بالمال في الدول المجاورة أن ينصروا السنة وأهلها ثمنًا لمعونتهم، ولكن النظام لم يهتم .. ولم يقدم على مجرد المطالبة مع شيوع الاضطهاد لأهل السنة في السجون والحياة العامة).

وفي اليمن أمارات أخرى على أن الدين تابع وليس أصلًا عند الأنظمة العربية التي يصطف خلفها جزء كبير من السلفيين وخاصة في السعودية؛ بل على أن خوفهم من الإسلاميين أشد من خوفهم من غيرهم، من هذه الأمارات: 

-تصدي الأنظمة الملكية الخليجية لثورة الشباب والتي كانت إسلامية الهوى أو تفسح المجال للإسلاميين بما تقدمه من حريات، تصدوا لها وصادروها ومكنوا للقديم في شكلٍ جديد. 

- دعمهم للحوثيين، أو سكوتهم عنهم مع أن الحوثيين جاهروهم بالعداء وقاتلوهم من قبل، كل ذلك خوفًا من سيطرة الإسلاميين على الحكم في اليمن. ولا ترحل من هنا قبل أن تدقق النظر في أن العداء لبعض طوائف أهل السنة –وليسوا هنا جماعات مقاتلة بل جماعات إصلاحية سلمية ظاهرًا وباطنًا- أشد من العداء للروافض. وستعود عليك ذات الملاحظة في كل دولة مسلمة: العداء لبعض أهل السنة أشد من العداء للروافض والعلمانيين.  

-تجاهلهم التام لتجمع الإصلاح في اليمن (تحالف وطني بقيادة الإخوان)، وأيضًا رفضهم تسليح أهل السنة في اليمن وتدريبهم، وهو الحل الأنجع والأدوم، وهو ما فعلته وتفعله إيران مع أوليائها في اليمن والشام والعراق، مما يشي بأن المراد تكسير اليمن كدولة كما فعلوا بالعراق والشام من قبل، حتى لا يخرج منه سني ولا شيعي يزعج ملكهم.

وفي مصر مدوا أيديهم للنفرة الشعبية ضد الاستبداد حتى قلعوها من جذورها، بتحريك مَن مادة عقله، وشحم بطنه، ومسكنه، وملبسه، ومركبه، ومنبره منهم، في مستوى جيل "الشيوخ" ومستوى جيل الوسط، وفي الإطار السياسي، وفي الإطار الدعوي، ثم دعموا العسكر علانية، وجاهروا بذلك. وجاء الانقلاب في مصر يضرب بقسوة في مقدرات الأمة –لا الأنظمة- لينقلب الشعب بعضه على بعض قتلًا وإرهابًا كما حدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا ... ويراد بوضوح تقويض الحركة الإسلامية في مصر، حتى التي نبتت على سبخة خليجية، والأنظمة في الخليج تبارك، وتدعم.

 

ماذا يريد السلفيون؟

الأنظمة في غاية الوضوح، تبحث عن الحكم وتقاتل عليه، والسلفيون ماذا يريدون؟! 

ذات الشيء، دروا بذلك أم لم يدروا، يريدون الحكم، أو ما يسمى في أدبياتهم: تطبيق الشريعة، فالمنافسة في حقيقتها بينهم وبين الأنظمة القائمة على من يحكم، الأنظمة بأهوائها، أم الله –سبحانه وتعالى وعز وجل- بما أنزل من أحكام في كتابه وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم-؟ فهل يلتقيان؟!!

الأمر أبعد من هذا وأعمق!!

الأنظمة العربية لا تقف وحدها تبحث عن الحكم، وإنما لها سياق دولي هو الذي أفرزها، وهو الذي يضبط حركتها، ويوظفها، فهي كالأجير عنده، والنظام العالمي الحالي حضارة ترفضنا إلا تابعين لها، إلا جزءًا منها.

وعلى مستوى الحدث فإن النظام العالمي يعيد ترتيب أوراقه في إطار تطور طبعي يحدث في العالم بعد صعود قوى عالمية في الشرق، يدمرون المنطقة ويسلمونها لشرطي جديد، لتدخل في دورة تاريخية جديدة، ويتفرغون للتصدي للقوى الصاعدة في الشرق (الصين). وهو في هذا كله "رابح"، يبيع السلاح ويأخذ الطاقة، ويوطن لثقافته وشركاته وشركائه، وقد بدأ بنقل معداته شرقًا لتكون المعركة الجديدة مع الشرق في منطقة متقدمة شرقًا (الهند)، فتكون المعركة بأموال الشرق وعلى أرض الشرق وتدميرًا لحضارة الشرق، واستمرارًا لتمدد حضارة الغرب. والقوم أصحاب رؤية بعيدة وبدائلهم كثيرة، وأدواتهم أكثر. والخطة: تخريب ثم تسليم.  

والخط العام لعملية التسليم بعد التخريب هو تسليمها لكتل متصارعة على خلفية طائفية وخلفية علمانية (الأكراد، والعلمانيون في مصر والأردن وتونس  والجزائر)، وما استطاعوا من خلفيات أخرى، ولديهم خطة لتقسيم الدول الإسلامية وغير الإسلامية إلى دويلات صغيرة، لم تنقطع هذه الخطة منذ بدأت بفصل شمال افريقيا عن وسطها وجنوبها باحتلال الصحراء (خط الحجيج) في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. ولن تسلم أمريكا  المنطقة لشرطي واحد، فهذا يتنافى مع عقيدة الغرب القائمة على إدارة منظومة ذات علاقات صراعية، فهي تبحث عن أكثر من شرطي، وتستغل طبيعة الدول في علاقاتها الدولية مراعية وجود دول ذات إمكانات صراعية وطموحات سياسية، فالأقرب لها هو الأقدر على صنع الصراع بأعداده وموقعه الجغرافي وطموحاته السياسية. وما يحدث الآن هو تفاوض عملي بين الأنظمة الإقليمية لتحديد مساحات جديدة، وفي هذا السياق تستخدم ورقة "نصرة الدين والمتدينين" لعلمهم بأنها تخيف الغرب، وضمنًا يقال: "إما نحن وإما الإرهاب"،  فهذا مكان الإسلاميين في الحدث. حينًا يستعملون وحينًا يستبعدون.

هل يضحك السلفيون على الأنظمة الحاكمة؟

التيارات السلفية تمتلك تصورات مثالية ويريدون فرضها على الواقع بدون الأدوات اللازمة لذلك، وأول هذه الأدوات الرؤية المعرفية المتماسكة لما يواجهون من تحديات تحول بينهم وبين مشروعهم، بل وتؤثر في فكرهم هم، وصناعة نخبة تتمثل هذه الرؤية في نفسها وتعالج المجتمع لتشييد واقع يتوافق وقيمهم.

يظن السلفيون أن بتقربهم للأنظمة الحاكمة في الملمات سيحققون تطبيق الشريعة، أو سترضى الأنظمة الحاكمة بهم وبمذهبهم وتعطيهم ما في يدها... وتعطيهم ما تقاتل عليه. والأنظمة تفهمهم جيدًا، وتزحف عليهم، تأكل من جسدهم كل يومٍ قضمة، تخادعهم وتستعملهم، وتتحرك بالمجتمع بعيدًا عن أهداف السلفيين وتحدث الآن نقلة نوعية بشائرها في منتهى الوضوح في لقاء عبد العزيز قاسم مع خاشقجي الأخير. فلم يفد السلفيون من التقرب للأنظمة الحاكمة بغير شرع الله شيئًا، وقد خلت من قبلكم المثلات في مصر حين تقرب شيوخ الفضائيات ثم شيوخ الانقلاب ولم ينفعهم. يقول الله تعالى: "أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون".

قد تكون البرجماتية مرحلة.. وقد تكون المهادنة ودعم أقرب الخصمين مرحلة، على أن نعي جيدًا أننا غيرهم، وأنهم لا يريدوننا، وأنهم يخربون بيوت المسلمين، ولابد للعقل من حزم.