أول سورة نزلت بأول كلمة اقرأ

أول سورة نزلت بأول كلمة اقرأ

العلاقة بين القراءة والكرامة

د. خالص جلبي

[email protected]

علمنا التاريخ أن هناك علاقة بين (القراءة) و(الكرامة).

وأشارت أول سورة نزلت من القرآن الى هذه العلاقة الخفية المثيرة (أقرأ وربك الأكرم)؛ فالقراءة تعني العلم، والعلم يعني الفهم، والفهم يعني الارتفاع والسيطرة والتحرر والقوة، كما اكتشف ذلك فيلسوف التنوير فرانسيس بيكون.

بالعلم يرتفع الانسان، ومن الجهل تتولد الحيرة والاستبداد، كما حرر ذلك الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) أن الجهلة يتنازعهم العلماء والطغاة؛ فإما حرروهم أو استعبدوهم.

ولايمكن لشعب واعي أن يعلو ظهره طاغية، وتسقط الأمم بسقوط ثقافتها.

إن أول كلمة نزلت في القرآن كانت (اقرأ). 

  وأول جملة في الإنجيل أشارت إلى أن بدء الأشياء هو (الكلمة): في البدء كانت الكلمة..

وذكر العهد القديم علاقة الفهم بالقوة فقال: (أنا الفهم لي القوة).

وعرف اليوم أن كتاب الخليقة، الذي بموجب تعليماته نتكون، يضم بين دفتيه ثلاثة مليارات حرف، في لغة سرية من أربع حروف، تتجمع على شكل كلمات، توحي بإذن ربها ماتشاء في تشكيل الجسم وماحوى.

وكل مستوى في الوجود مكتوب بلغته الخاصة..

كل قد علم صلاته وتسبيحه.

العلم يفاضل بين أقدار الناس ومصائر الأمم، وأعظم الأمم هي أكثرها قراءة.

قال التاريخ هذه الحقيقة بصور شتى: فتوحات الأسكندر. وهيمنة الحضارة الهلينية وأثرها حتى اليوم على الحضارة الإنسانية والنظم السياسية، ومن الفلسفة جاء الفكر، ومنهجية تنظيم العقل، وتحريره من الفوضى والعبثية.

وتكرر هذا الشيء للرومان والمسلمين. ويتكرر اليوم للألمان والكنديين وأهل الصين وماليزيا.. فهنا معتق الانبعاث وساحة الخلاص.

وفي يوم كان العرب أمة قراءة، واليوم يعيشون عصر الظلمات والجملوكيات والمخابرات والانقلابات والاجتماعات للمؤامرات؛ في عدد من الأميين مرعب يتجاوز مائة مليون!

وتعلو الأمة الأمريكية واليابانية بفعل القراءة والعلم والفكر؛ وتعلم الأمريكيون أكثر مع صدمة السبوتنيك. بعد أن سبح الروس في السما.

واليوم في أمريكا أكبر نسبة من القراء والعلماء والمؤسسات العلمية ومصارف المال وبراءات الاختراع وجوائز نوبل وميداليات الأولمب.

واليوم يوجد ما يزيد عن نصف مليون بحث في مكتب براءة الاختراع في أمريكا ينتظر الدراسة، ومنها ما تقدمت به الأبحاث الحديثة ووصلت إلى فك (الجينوم البشري)، وبعده الشمبانزي بل وإنسان نياندرتال، ثم تلاه مشروع جدا طموح لمسح كل الكائنات الحية، ووضع اليد على أثمن ما في الوجود قاطبة، بما هو أثمن من بحار البترول وجبال الألماس، لأنه الاكتشاف الجديد للإنسان؛ فمنه سيتم قهر السرطان والايدز، ومنه سيتم مسح ثمانمائة مرض وراثي، ومنه سيتم كشف كامل الخارطة الوراثية عند الانسان، ومعرفة ماهو الانسان فعلاً على الأقل في المستوى البيولوجي، وهي أبحاث ستشغل العلماء في مدى 300 سنة القادمة.

الانسان كائن غامض مجهول غير معروف، ولعل أهم كشف في الشفرة الوراثية عند الانسان معرفة (جينات العدوانية) وهل لها أساس بيولوجي في الخارطة الوراثية أم أنها عمل الثقافة المريض؟

وقد يمكن لجم الحرب من باب غير متوقع بفرملة العدوانية وسفك الدم وإنتاج نسخة بشرية معدلة للسلام؟

أو هكذا نتفاءل فكل النظريات تتحطم عند قدمي تفسير الإنسان!؟

إلا أن الطب ضرب معوله في مواقع انبجست ينابيع للعلاج ومصادر لا تعرف النفاد في راحة البشر..

إذا استطعنا تقرير أن أي واقع بشري هو نتيجة طبيعية للأفكار التي يحملها الناس في مجتمع ما، فإن العكس صحيح أيضاً، بمعنى أن تغيير رصيد مابالنفوس سوف يغير الواقع الاجتماعي، ويتولد عن هذا ثلاث نتائج متلاحقة يأخذ بعضها برقاب بعض:

الأولى: طالما كان تغيير مابالنفوس يرجع إلى الأفكار التي نزرعها ؛ فإن مفاتيح التغيير الاجتماعي هي ملك يميننا، وبها تدشن الكرامة والحرية الإنسانيتين

وتنص الحقيقة (الثانية) أن أسرار التغيير تحت أيدينا، وبالتالي فإن أي شيء يحدث لنا هو من صنع أيدينا، وهي فلسفة القرآن التي تنص على أن الظلم الذي يقع على الإنسان هو من صنع يده، قبل أن يكون من مصدر آخر!! 

  ولعل أعظم فضيلة يتدرب عليها الإنسان هي أن لا يلوم أحداً، بل يلوم نفسه عند مواجهة أي خطأ، وأن لايلعن الظروف، بل يفهم قوانين حدوث تلك الظروف، تمهيداً للسيطرة عليها.

وترى الحقيقة (الثالثة) أن نتوجه إلى الحقل المفيد في التغيير الاجتماعي من خلال فهم سنن التغيير، لأن وعي أي قانون يفتح الطريق أمام تسخيره، والتسخير هي الخدمة المجانية، وهي متاحة لجميع البشر.

إذاً مفاتيح التغيير بأيدينا والإنسان مهندس مصيره، فهذه هي الحقيقة الأولى ويوجهنا القرآن الى تغيير (نفوسنا) حتى يتغير واقعنا، وليس اغتيال الحكام ونسف المؤسسات وقتل المختلفين عنا.

وأن التغيير يبدأ دوماً من عندنا، ويجب أن يفهم الصراع العربي الإسرائيلي في هذا الضوء من زاويتين:

ـ إسرائيل اختلاط ومضاعفات (COMPLICATION) للمرض العربي الأساسي

ـ وأن الصلح العربي ـ العربي أهم وأجدى وأبقى من الصلح العربي الإسرائيلي.

وثالثاً أن الكون مؤسس على قوانين. وأن القوانين قابلة للفهم، وأن فهمها يمنحنا السيطرة عليها. وأن ما ينطبق على الفيزياء ينطبق على المجتمع.

وفي قوانين التغيير أبدع جودت سعيد في طرح المشكلة في عدد من الكتب مثل حتى يغيروا ما بأنفسهم واقرأ وربك الأكرم والعمل قدرة وإرادة ومذهب ابن آدم الأول.

لقد كان سقوط التفاحة هو الذي ألهم في لحظة عبقرية (نيوتن) اكتشاف قانون دوران الكواكب وسباحة المذنبات، وهي الفكرة التي ألهمت عالم (النمل) الأمريكي المعاصر (ادوارد ويلسون O. WILSON EDWARD.) شق الطريق لاكتشاف (وحدة العلم) في صورة بانوراما شاملة جعلته يطرح مبدأ (البيولوجيا الاجتماعية SOCIAL BIOLOGY) فما ينطبق في (البيولوجيا) يمكن أن يسري في ( المجتمع ) وفق قوانينه النوعية.