قمة الكبار / G8

د. محمد أحمد الزعبي

خواطر حول الثورة السورية ( 2 )

د. محمد أحمد الزعبي

1..

في السابع عشر من أبريل ( 17.06.2013 ) ، ولمدة يومين كاملين ، اجتمع في إيرلندا الشمالية (الثمانية الكبار) ليتدارسوا في الغرف المغلقة ، كيف يمكنهم ، حل الأزمة السورية ، مع المحافظة على مصالحهم وهيمنتهم على الآخرين في آن معاً ، تلك الهيمنة المتواصلة ، منذ كريستوف كولومبوس في القرن الخامس عشر ، وحتى باراك أوباما في القرن الواحد والعشرين ، والتي جعلت من هؤلاء الكبار صناع وتجار ومحتكري سلاح ، وحولت الآخرين إلى مجرد مستجدين ومستهلكين لهذا السلاح . ( أنظر: هارالد نويبرت ، النظام العالمي الجديد ومشاكل العالم الثالث ،على ضوء اكتشاف أمريكا قبل 500 عام ، ترجمة محمد الزعبي وممتاز كريدي ، بيروت 1996). وتعود الأسباب العميقة والبعيدة لاكتساب هؤلاء الكبار هذه الصفة  ( الكبار ) ، وبالتالي تحكمهم على المستوى العالمي بورقة احتكار وتجارة السلاح ( وهذا حسب شهادة بعض من أهلها على نفسه ) إلى :

ـــ يقول المؤرخ الفرنسي فرديناند بروديل " إذا لم يخذلنا انطباعنا الأول ، فإن مناطق العالم الكثيفة بالسكان ...   [ كانت ]في القرن 16 ، لاتزال متشابهة جداً ، بل تكاد تكون شبه متساوية ، علماً بأن أي سبق ضئيل كان يكفي دون شك لخلق وتأمين مزايا تصبح فيما بعد تفوقاً ، فيما يتحول ضعف الطرف الآخر تدريجياً  إلى تبعية  "      ( نفس المرجع ، صفحة 31 ) .

ـــ   يتحدث الباحث بول كينيدي Paul Kennedy ... عن " معجزة اقتصادية " ضمنت لأوروبا ، حسب رأيه  تفوقاً على بقية العالم منذ القرن الـ 15 ، " ولأن هذه المعجزة فريدة من نوعها تاريخياً ، فإنه من المعقول الإقرار ، بأنه لوكان هناك تماثل في المكونات في مكان آخر ، لأعطى نتيجة مشابهة  " ( نفس المرجع ، ص 32 ) .

ــ  ولقد كانت هذه المعجزة الإقتصادية ، بكلمات الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي هي :

" ومن اليسير البرهان على النظرية الآتية : إن " النمو" و " التخلف " يرتبطان برباط جدلي . وإن علاقتهما المتبادلة هي علاقة شرط وإنجاب ، وبعبارة مشخصة على نحو أعظم ، إن شرط " نمو " ( الغرب ) إنما كان بالضرورة وليد نهب ثروات القارات الثلاث ( آسيا ، أفريقيا ، أمريكا اللاتينية  ، م. ز. ) ونقلها إلى أوروباوإلى أمريكة " ( روجيه غارودي ، حوار الحضارات ، ترجمة عادل العوا ، بيروت ـ باريس 1982 ، ص 45 )

ـــ وحسب هارالد نويبرت ، فقد ولدت في الفترة مابين القرنين 14 و17 في بعض بلدان أوروبا ، الظروف المواتية لمواصلة تطور البشرية ، وهي ظروف لم تتوافر في العصر القديم ، ولا في مجتمعات آسيا وأمريكا رغم تطورها الحضاري . ( نفس المرجع ص 34 ) ... فالحملات الصليبية التي سارت في القرون الوسطى نحو الشرق الأوسط ، كانت في الأساس ، بدافع جني ثمار الحضارات الشرقية لصالح أوروبا ، بالنار والحديد ، والسلب والنهب . فقد برزت التأثيرات البيزنطية في الفن المعماري ، وبرزت التأثيرات العربية والشرقية الأخرى في علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا والملاحة والطب ، وظهر ذلك بصورة خاصة في إسبانيا بالذات حيث استمر الحضور العربي حتى نهاية القرن 15 ، وساد فترة طويلة  " تفوق العالم الإسلامي الفكري في علم القرون الوسطى " في مجال العلوم المذكورة . ولقد مارس علماء عظام في الشرق، تأثيراً قوياً على الفكرالفلسفي والمعارف العلمية في أوروبا ، نذكرمن بينهم ــ على سبيل المثال ــ : ابن سينا ( 980 ـ 1037 ) ، وابن رشد ( 1126 ـ 1198 ) وابن خلدون ( 1332 ـ 1406 ) . ( نفس المرجع ، ص 34 / 45 ) .

 كما أن إدخال واستعمال البارود ، قد أدّى منذ القرن 14 ، إلى حدوث ثورة حقيقية في المجال الحربي ، كان من نتائجها ، التفوق على كل من لم يلحق بالركب ، في ذلك المضمار . ( نفس المرجع ، ص 35 ) .

في الشاهد السابق تعبيران لهما دلالة كبيرة ، فيما يتعلق بفكرة هذه المقالة ( قمة الكبار!! ) ، هما : كلمتا

" إدخال ، واستعمال " البارود ، حيث تشيرالمفردة الأولى منهما ، إلى أن البارود ليس ابتكاراً أو اختراعاً أوروبياً ، وإنما هو صيني ( كما هو معروف ) ، تم إدخاله إلى أوروبا . أما المفردة الثانية (استعمال ) ،  فتشير  ــ من وجهة نظرنا ــ إلى ضمور البعد الأخلاقي في التعامل مع أرواح الآخرين ، والذي وصل إلى مدياته القصوى آنذاك ، في استخدام أسلحة الدمار الشامل في ناغازاكي وهوروشيما  في الحرب العالمية الثانية . 

 إن محاولة دول الـ G8 الحالية احتكار السلاح النووي لأنفسهم فقط  ، كوسيلة بيدهم للهيمنة السياسية الاقتصادية على بقية دول العالم ، ولا سيما الغنية منها بالثروات الطبيعية ، وخاصة النفط ، إنما يصب بنفس طاحونة ضمور البعد الأخلاقي التي أشرنا إليه. ولابد من أن نضيف هنا إلى مسألتي ، السلاح النووي ، والضمور الأخلاقي  للدول الرأسمالية والصناعية الكبرى في العالم مسألة ثالثة ، هي استخدام هذه الدول ورقة " الديموقراطية " ، وحقوق الإنسان ، تلك الورقة التي وضعتهم حيال ثورات الربيع العربي ، في مصر وتونس خاصة ، في حيص بيص ، فمن جهة ، لايريدون التخلي عن مصالحهم الاقتصادية التي ارتبطت منذ الحرب العالية الأولى  بوجود تلك الأنظمة والزعامات العربية المستبدة ، المدعومة من قبلهم ، ومن جهة أخرى ، يريدون المحافظة على ، مازرعوه في رؤوس الآخرين ، بمن فيهم شعوبهم نفسها ، من أنهم دول ديموقراطية ، وأن أنظمتهم تمتاز عما سواها من أنظمة  بقية دول العالم  ، بما فيه الأنظمةالاستبدادية التي يدعمونها ،  بهذه الصفة ، أي الديموقراطية . 

يتم في الوطن العربي هذه الأيام ، تداول مقولة أن هؤلاء " الكبار"  ، وبالتعاون مع بعض الدول العربية والإسلامية ، يريدون أن يجعلوا من سورية  " مقبرة للربيع العربي " . إن هذا يذكرني ببيت شعر الأخطل الكبير في هجائه للفرزدق : ( زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً     إبشر بطول سلامة يامربع ) .

يبدو لمتتبع أخبار مؤتمر الثمانية الكبار/ G8 ( أمريكا ،بريطانيا ، ألمانيا ، إيطاليا ، كندا ، فرنسا ، اليابان ، روسيا ) ، انهم ( من حيث الشكل) منقسمون على أنفسهم انقساما حدياً وجديّاً فيما يتعلق بالثورة السورية عامة ، وبمسألة تسليح المعارضة السورية خاصة ، وأن البيان الختامي الذي صدر عن المؤتمر جاء في مصلحة روسيا ، وبالتالي بشار الأسد وإيران وحزب الله  بصورة أساسية ، وبالتالي فإن السبعة " الكبار" الآخرين ، قد تحولوا إلى سبعة " صغار " أمام بوتين العملاق ، ولعلهم باتوا بحاجة إلى مساعدة "جبهة النصرة " لتنقذهم من براثن هذا العملاق النووي الخطير !! ، ولتلقنهم أيضاً شعارالثورة السورية الجديد : " مالنا غيرك ياالله " . 

إن مانرغب الإشارة إليه  ؛ فيما يتعلق بهذا الموضوع ،هو ، من جهة ،  أن أحداً لايمكنه أن ينكرأو يتنكر لوجود خلافات واختلافات في الرؤى والمصالح ، بين هذه الدول الثمانية ، بل إن وجود مثل هذه الخلافات والاختلافات بينها هوالأمرالطبيعي ،ولكن من جهة ثانية، فإن هذه الخلافات والاختلافات، تتم جميعها (ومن حيث المضمون )  تحت سقف " النظام العالمي الجديد " ، أي نظام مابعد سقوط الاتحاد السوفياتي . إن مانعنيه بالنظام العالمي الجديد هنا ، هو النظام الذي قسم ويقسم العالم إلى " كبار وصغار " ، وبينما يتحدد عدد الكبار بثمانية دول لايزيد عدد سكان بلدانهم عن 890 مليون نسمة ( أقل من سدس سكان العالم ) ، ولا تزيد نسبتهم عن 13% من سكان العالم  ، فإن أكثر من خمسة مليارات إنسان ( أي مايزيد على  85 % من سكان العالم ) يندرجون تحت المفهوم المقابل لمفهوم " الكبار " ألا وهو مفهوم " الصغار " ، رغم وجود دولتين ملياريتين ( الصين والهند ) بين هؤلاء " الصغار " !! .  هذا مع العلم أن معظم هؤلاء " الصغار " هم  من الدول الفقيرة والضعيفة ، التي عليها أن تفتح  بلدانها ، برّاً وبحراً وجوّاً ، لسادة العالم الكبار ، ولشركاتهم الرأسمالية العملاقة عابرة الحدود والقارات والقوميات ، ولطائراتهم المختلفة بما فيها تلك المسيرة ذاتياً بدون طيار  .

إن معنى أن تتم هذه الخلافات والاختلافات بين الثمانية الكبار، تحت سقف النظام العالمي الجديد ، إنما يشير بالنسبة لموضوعنا ( الموقف من الثورة السورية ) ، إلى أن ماهو متفق عليه وحوله بينهم ( بما هم محتكري صناعة وتجارة السلاح في العالم ) ،هو ــ برأينا ــ أكثر ( وربما بكثير ) مما هو مختلف عليه وحوله ، وهو ماتشهد به جنيف 1 وجنيف 2 ، وربما سيصل بنا الأمرإلى جنيف 3  ، وهذا بالرغم من تلك التسريبات الإعلامية المدروسة والمقصودة ، والتي تشي بغير ذلك .

إن الإشكالية القائمة الآن فيى سورية ، هي أن ثورة آذار 2011 ، اندلعت في بلد ينتمي سياسياً وديموغرافياً إلى عالم  " الصغار " ، ولكن عمقه التاريخي والجغرافي سمح لهذه الثورة ، أن تنظر لنفسها على أنها ثورة  التحرر من نير التبعية والاستبداد والفساد ، ثورة إعادة الاعتبار للحرية والكرامة والديموقراطية  للشعب وللمواطن في سورية ، وبالتالي إعادة الاعتبار للدور القومي العربي والإسلامي لسوريا ، ذلك الدور الذي غيبه نصف قرن من الحكم الديكتاتوري لعائلة الأسد ، نصف قرن من الاستبداد والفساد ، و من تغييب الشعب والمواطن ، وبالتالي تغييب " المواطنة " المتساوية ، التي تمثل ويتمثل شعارها تاريخياً  بمقولة " الدين لله والوطن للجميع " .

إن  مثمّن " كبار" هذا العالم ، لاتروق لهم  ــ على ميبدو ــ هذه الأهداف التحررية لثورة آذار 2011 ، لأنها تتعارض مع مشاريعهم الاستعمارية ، ومع الوضع الجغرافي التراجيدي الذي خلقوه بعد الحرب العالمية الأولى ، سواء عن طريق سايكس ـ بيكو او عن طريق وعد بلفور ، أو عن طريق التساند الوظيفي بين تكنولوجيا  كل من " المصنع والمدفع " ، سواء في سياساتهم عامة ،أوفي سياساتهم الاقتصادية خاصة ، ولاسيما سياستهم تجاه البلدان النامية ، ومنها الوطن العربي ، ومنه سورية ، التي خلقت ثورة آذار 2011  فيها ،  هذا الوضع العالمي الجديد .

إن الثورة السورية لاتريد أي تدخل عسكري من أحد ، ولكنها تدين الصمت العالمي المطبق ، ولاسيما صمت السادة الكبار ، على تدخل الآخرين ( روسيا ، إيران ، العراق ، حزب الله ...) في الشأن السوري ، ودعمهم لبشار الأسد ضد ثورة الحرية والديموقراطية والكرامة . نعرف أننا سنجد من يقول ، ولكن " أصدقاء الشعب السوري "  لم يصمتوا على تدخل المذكورين  في الشأن السوري ، بدلالة مؤتمراتهم ، واجتماعاتهم ، وبياناتهم ، التي باتت أكثر من أن تحصى !! . وردنا عليهم هو ، المثل الشعبي الدارج " الكلام مافي عليه جمرك " ، والمهم هو الفعل وهو النتيجة وليس الكلام .. لقد أوشك أن يصل عدد ضحايا نظام بشار الأسد وشبيحته وأعوانه ، إلى العشرة ملايين  بين قتيل ، وجريح ، وأسير ، وسجين ،  ومشرد ، ونازح ، ولاجئ  ، أي تقريباً نصف عدد سكان سورية !!. ( أنظر تقرير مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ، تاريخ 13.6.13 ، وفضائية الجزيرة ، البرنامج الخاص بسوريا ، الساعة 19.30 بتوقيت ألمانيا ، ونشرة "الجزيرة هذا الصباح" الإخبارية  في 20 /6/ 2013 ) ، فأين هم هؤلاء الكبار من كل هذا  ؟!!.

كان يمكن ألاّ نكون بحاجة إلى سلاح هؤلاء الكبار بالتأكيد ، لو أنهم منعوا روسيا وإيران وحزب الله ، من التدخل في الشأن السوري ، وبالتالي من تزويد بشار الأسد بالمال والرجال والسلاح والخبرات . ولكن ومع كل ذلك ، بل ورغم كل ذلك ، فلابد أن يكون هؤلاء " الكبار" على يقين تام ، بأن الثورة السورية ، هي ثورة حرية وكرامة ، ثورة ديموقراطية وحقوق وطنية مشروعة ، ثورة " الشعب يريد سقوط النظام " ، وهي لن تتوقف قبل بلوغها هذه الأهداف الوطنية المشروعة ، أياً كانت التضحيات ، وأياً تعددت " الجنيفات "  شاء من شاء وأبى من أبى . وتقليداً لمعلمنا ابن خلدون نقول :  والله أعلم .