قصتي مع المخابرات السورية 1

قصتي مع المخابرات السورية

قصة عادية من الحياة اليومية لمواطن سوري

الجزء الأول (من جزئين)

طريف يوسف آغا

[email protected]

 يسألني بعض معارفي عن سبب عدائي الشديد لنظام (الأسد الابن) وتأييدي للثورة السورية منذ اليوم الأول، وذلك بالرغم من مضي مايقرب من الثلاثين سنة على مغادرتي البلد وعدم تجربتي للحياة في ظل ذلك النظام. جوابي على ذلك هو أن نظام (الابن) هو كنظام (الأب)، وقد عشت في سورية تحت حكم الأخير لفترة كافية لأختبره وأعرفه على حقيقته. كما وكانت لي تجربتي الخاصة مع جهاز مخابراته ومع أفراد طائفته الذين يشكلون العمود الفقري للنظام، وبناء على هاتين التجربتين، فقد كنت من أول المؤيدين لثورة الحرية والكرامة والتي أراها شخصياً بأنها أتت انتقاماً من وحشية (الأب) قبل (الابن)، وخاصة في مجزرة (حماة) الشهيرة، وكذلك على تسلط الطائفة وممارساتها وإقصائها للأكثرية. وسأعرض عليكم في هذا المقال وباختصار قصتي مع المخابرات السورية، وسأتجنب ذكر الأسماء حتى لايبدو الموضوع تشهيراً بأحد أو دعاية لأحد.

 بعد تخرجي من كلية الهندسة الميكانيكية الواقعة على طريق مطار دمشق الدولي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، عملت لفترة قصيرة في مؤسسة تنفيذ الانشاءات العسكرية (متاع) وبالتحديد في (معسكر شبعا) عند الجسر الرابع للمطار. وحتى يأخذ القارئ غير السوري فكرة عن تسلط الطائفة العلوية على كافة مفاصل الدولة وأخذها ماليس من حقها، فقد كان المدير العام من تلك الطائفة، وكذلك مديري المباشر في مديرية الاصلاح والنقل، وكذلك معظم المدراء ورؤساء الأفرع أو معاوينيهم ناهيك عن معظم السكيرتيرات. ولاداعي للذكر هنا أن كافة ضباط الأمن في المؤسسة وفروعها هم أيضاً من نفس اللون. وقد شغلت لفترة قصيرة منصب رئيس دائرة فيها حوالي عشرين موظفاً وموظفة نصفهم أيضاً من شريبة المتة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه المؤسسة تعتبر هندسية خدمية، فيمكننا بالتالي تخيل حجم تواجد الطائفة في الجيش والمخابرات. وهذا يعيدنا إلى المقال الذي نشرته مؤخراً بعنوان (كيف قام الأسد الأب بعملية علونة سورية؟) آخذاً لنفسه ومعطياً لطائفته ماليس من حقهما على حساب بقية أطياف الشعب السوري وخاصة الأكثرية السنية.

 من جهتي فقد نشأت في أسرة تكره السياسة وتكره التعاطي بها ومعها، بل وتعتبرها مهنة قذرة وخاصة بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في انقلاب عام 1963 العسكري الذي يسمى بثورة الثامن من آذار. وقد كان والدي أطال الله في عمره، وبناء على طلب شخصي من صديقه آنذاك، المرحوم عدنان المالكي، قد تطوع في الجيش العربي السوري بعد الجلاء مباشرة في الدورة رقم 1، ويعتبر بذلك من مؤسسي هذا الجيش. شارك في حرب فلسطين ثم في عدة معارك مع إسرائيل خلال الخمسينيات ومطلع السيتينيات. فما كان من البعثيين بعد انقلابهم المذكور إلا أن أحالوه على التقاعد، وكان برتبة عميد، لأنه لم يكن منتسباً لحزبهم ولا لأي حزب متعاطف معه. بعد تسريحه، بقي والدي يفتخر بتلك الأسباب ويعير أصدقائه الذين تم إبقائهم في الخدمة لأنهم كانوا (حزبيين) بالسر، وهذا ماكان عيباً كبيراً في ذلك الوقت، ناهيك عن كونه ممنوعاً بالقانون.

 من هذه المداخلة القصيرة حول أسرتي ونشأتي، فلم أنتسب في يوم لأي حزب أو منظمة أو اتحاد، لاسياسي ولا اجتماعي ولاديني ولاحتى رياضي، لا في سورية ولا هنا في أمريكا. ولكن كان ومايزال مبدئي في الحياة هو تقديس العمل والقيام به على الوجه الأمثل. وبالتالي فقد وضعت هذا المبدأ موضع التنفيذ منذ اليوم الأول لاستلامي الوظيفة، والتي كانت بالأصل بالنسبة للمهندسين في ذلك الوقت وظيفة إجبارية وليست اختيارية وتدعى بخدمة الدولة. وقد فعلت ذلك من منطلق أنه وبالرغم من كون تلك الوظيفة إجبارية، فليس هناك مايمنع من القيام بها على أحسن وجه، فسمعتي، وخاصة المهنية، كانت دائماً ومازالت في مقدمة أولوياتي، ولكن وللأسف فقد كان هذا ماسبب المشكلة التي أتت بعد ذلك سريعاً. قمت بوضع خطة للعمل ووضعتها حيز التنفيذ موجهاً الموظفين الذي يعملون تحت إشرافي بحيث يتم الاستفادة من وقتهم وجهودهم في تحقيق تلك الخطة، وليس في جلسات المتة والأحاديث الجانبية والزيارات بين المكاتب التي كانت مستشرية في بقية دوائر وفروع المؤسسة وغيرها من مرافق الدولة.

 لم يمض وقت قصير حتى بدأت ألمس تململاً من بعض (الشباب) الذين لم يعتادوا اسلوب العمل المفيد والمنتج، أو لم يعتادوا العمل أصلاً، فالوظيفة الحكومية للبعض كانت ومازالت تعني باختصار شديد (فية ومتة وشكل حسن) بالاضافة (لنقش) التقارير الأمنية بالآخرين. وقد لاحظت أن أحد الشباب إياهم ينطبق عليه أكثر من غيره المثل القائل (وجوده مثل قلته) بحيث كان جل مايقوم به أثناء الدوام هو ماسبق وذكرته. وبالرغم من أنه لم يكن يحمل الشهادة الاعدادية، فقد كان مستلماً لسيارة من المؤسسة وله مسدس على جنبه ويأتي دائماً إلى الوظيفة ببذلة خضراء بالرغم من أنه ليس عسكرياً. وقد بذلت عدة محاولات لجعله يتجاوب مع خطة العمل التي وضعتها ويقوم بدور مفيد فيها، كما فعل بقية موظفي الدائرة، إلا أن جهودي ضاعت بلا فائدة ووصلت في النهاية لنتيجة (فالج لاتعالج). وربما كنت قد تركت الرجل لشأنه وتجاهلته لو أن الموضوع كان يتعلق به فقط، ولكن مكتبه في ساعات الدوام كان أشبه بما يسمى (مضافة خريفيش) التي تجمع شريبة المتة والجنس اللطيف. ولم تمنعني خلفية الرجل من التقدم بطلب رسمي للمدير باستبداله بشخص آخر أكثر فعالية، مفضلاً أن يكون مهندساً.

 بالرغم من الفترة القصيرة التي كنت قد قضيتها في المؤسسة حينها، إلا أني كنت قد حزت على ثقة مديري المباشر، خاصة وأني نجحت بتنفيذ المهام الموكلة للدائرة، بل وحولتها من دائرة خدمية إلى دائرة انتاجية، مما دعا المدير إلى صرف مكافآت دورية لموظفيها. وبناء على ذلك، فلم يتأخر بالموافقة على طلبي هذا وفرز لي مهندساً من المديرية العامة ونقل (صاحب المضافة) إلى خارج دائرتي. ولكن وبالرغم من أن الرجل لم يفصل، بل تم نقله إلى مكتب آخر واحتفظ بسيارته وامتيازاته، إلا أنه غضب لما حصل وقام بتهديدي أمام شهود، منهم مديرنا، وتوعدني بالويل والثبور وعظائم الأمور.

 ولم تمض أيام على هذا الحادث، وخلال ليلة كنت مكلفاً فيها بمهام الضابط المناوب، حتى وجدت نفسي في مواجهة جديدة، ولكن هذه المرة مع ضابط أمن المعسكر، وهو صدف أنه صهر (صاحب المضافة). فقد أتى إلى المعسكر بسيارته بعد حلول الظلام وسمح لنفسه بالدخول دون إذني بصفتي ضابط مناوب حسب ماينص عليه القانون. وحين أراد المغادرة، كنت بانتظاره على البوابة الرئيسية ومعي القانون الداخلي للمؤسسة وفيه صلاحيات ومهام الضابط المناوب، وطلبت من الحرس عدم فتح البوابة إلا بأمري. ثم التفت إلى الرجل وسألته كيف دخل المعسكر ويريد المغادرة دون إعلامي حسب ماينص عليه القانون، إلا إذا كان يعتبر نفسه فوق القانون؟ تفاجأ صاحبنا بمواجهتي له بهذه الطريقة، ولم يعرف ماذا يجيب. فترجل من سيارته وبدأ (يقاقي) شارحاً لي مهامه وصلاحياته (الأمنية) معتمداً على جهلي بها، فقاطعته بتسليمه نسخة خطية رسمية عن القانون الذي يؤكد أن صلاحيات الضابط المناوب هي الأعلى ولاتعلو عليها سوى صلاحيات قائد المعسكر. فتلعثم من جديد وطلب مني السماح له بالمغادرة مع سيارته وبلهجة لاتخلو من التهديد، فكان جوابي بأني، ولاستهتاره بالقانون وهو من عليه مراعاته قبل غيره، فقررت أن أصادر سيارته حتى انتهاء مناوبتي في الصباح حيث سأسلمها لقائد المعسكر ليقوم بتفتيشها على مسؤوليته، وأني سأسمح له فقط بالمغادرة راجلاً بشرط تفتيشه أصولاً من قبل الحرس.

 أصيب الرجل بصدمة لدى سماعه قراري، وكذلك الحرس الذين كان عليهم تفتيشه، فهم كانوا لايتجرؤون أصلاً على النظر إليه في الأحوال العادية، باعتبارهم ليسوا من (الطائفة الكريمة) مثله، كما أنه معروف بتقاريره الأمنية وأذيته للآخرين. من جهتي، وكما تعودت أن أحترم الغير ولاأتجاوزهم وأن أعط كل ذي حق حقه، فتعودت أيضاً أن لاأسمح لأحد بتجاوزي أو أن (يستوطي حيطي) كما يقال. ولذلك فلم أجد في خلفية الرجل الطائفية ولاوظيفته الأمنية ولاالمسدس الذي يحمله على جنبه مايمنعني من رد الصاع له صاعين على التجاوز الذي ارتكبه بحقي. وهنا بدأ الرجل بالتكلم بلهجة الرجاء واقترب مني وقال لي بأني أحرجته أمام مرؤوسيه وبأنه يوافق على تفتيشي لسيارته إذا سمحت له بالمغادرة بها، فأجبته بأن الطريقة الوحيدة التي ستجعلني أوافق على طلبه هو إحضاره لأمر خطي من قائد المعسكر بذلك، والذي بالمناسبة هو أيضاً من (الطائفة الكريمة). فسألني وكيف سيذهب إلى بيت قائد المعسكر في دمشق في هذه الساعة (بعد الواحدة صباحاً) وليس لديه وسيلة مواصلات، ووسائل النقل العامة تتوقف بعد منتصف الليل؟ وهنا استأذنني أحد الحرس لاعارته دراجته الهوائية (البسكليتة) إذا لم يكن لدي مانع، فوافقت وكان هذا ماحصل، وعاد الرجل بالأمر الخطي الذي طلبته ثم غادر المعسكر بسيارته بعد الساعة الثالة صباحاً بعد تفتيشها أصولاً باشرافي من قبل حرس المعسكر. لم تمض أيام على هذه الحادثة حتى استلمت رسالة مسجلة عن طريق ديوان المؤسسة تطالبني بمراجعة أحد أفرع المخابرات في ساحة الأمويين خلف مبنى الأركان العامة بتاريخ ووقت محددين ودون إبداء السبب.

***

نهاية الجزء الأول