البيئة المستدامة في الوعي الاقتصادي الإسلامي

د. هايل عبد المولى طشطوش

[email protected]

لقد جاء الإسلام دينا شاملا عاما اتسع لكل ما يمكن أن يخطر على بال البشر واحتضن كل ما يمكن أن تفرز مستجدات الحياة ، ومن القضايا الهامة التي تناولها الإسلام بالاهتمام والنظر هي قضية البيئة والحفاظ عليها وديمومتها في إطار ما أصبح يعرف اليوم بالاستدامة،حيث عرف الإسلام الاستدامة منذ مجيئه والأدلة على ذلك واضحة للعيان ، فمعظم تعاليمه وإرشاداته للخلق تصب في إطار الاستدامة ، ولا أدل على ذلك من تعاليمه في مجال الاستهلاك بمفهومة الشامل، وفي هذه المقالة نقدم تصور الإسلام لبيئة مستدامة هدفها خدمة الأجيال الحالية وحماية الأجيال القادمة والحفاظ على مصالحها وقد قدم الإسلام عددا من التصورات الواعية في مجال بناء بيئة مستدامة ولعل من ابرز هذه التصورات ما يلي:

أولا: حماية البيئة من الفساد والضرر والتلف:

دعا الإسلام إلى الحفاظ على البيئة ومقدراتها من الثروات والخيرات الطبيعية وحرم الإفساد فيها من خلال قطعها أو تلويثها أو إتلافها وذلك كحق من حقوق الإنسان وحمايته من الضرر  الذي يلحق  ﻋﻨﺎﺻﺮ ﺍﻟﺒﻴﺌﺔ ﺍﻟتقوم  حياته ﻋﻠﻴﻪ، ويعاني الإنسان ﺍﻟﻌﺼ الحاضر ﻣﻦ مشكلة  ﺍﻟﺘﻠﺙ ﺍلمتمثلة في كثرﺓ ﺍﻟﻌﺍﺩﻡ ﺍلملوﺔ ﻟﻨﻘﺎﺀ ﺍلهوﺍﺀ التي  تفرزها ﺍﻵﻻﺕ، ﻭة المخلفات  التي ترمي بها الدول الصناعية في البر والبحر وتسبب الضرر والإهلاك للبيئة والإنسان على حد سواء.

بل ذهب الإسلام إلى ابعد من ذلك، حيث أمر بالتعامل برفق وإحسان مع كل شيء وخاصة مع المقدرات التي تخدم حياة الإنسان وتسهلها ، حيث أن تحقيق مبدأ التنمية المستدامة يتطلب من الإنسان أن يتعامل مع البيئة برفق وإحسان، فكما يأخذ منها عليه أن يعطيها، وعلية أن يراعي حقوق البيئة كما يرعى حقوق الإنسان،  وذلك من خلال الحفاظ على الغابات ومصادر المياه وحمايتها من التلوث لما في ذلك من فوائد وعوائد اقتصادية ضخمة تعود على بني الإنسان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب  الإحسان على كل شيء...). ومن مظاهر الدعوة إلى عدم إفساد وتلويث البيئة قوله علية الصلاة والسلام:  

 (لا يبولن الرجل في الماء الدائم ثم يغتسل منه )

كما شدد الإسلام على عدم تلويث الجو وإفساده بالدخان والأبخرة والأتربة والمخلفات والروائح القذرة  حيث روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال" لا يؤذ أحدكم جاره بقتار قدره"، أي بريح طعامه ، فإذا كان الإسلام يشدد على عدم الإيذاء بريح الطعام، فمن الأولى أن لا يؤذي الناس بما هو أسوء من هذا بكثير؛ من مداخن تنفث السموم, وروائح مختلفة, وغير ذلك من الأتربة والادخنه ... ودفن النفايات النووية, والتجارب النووية في أعماق البحار التي تؤذي الأحياء المائية, أو في جوف  الصحراء التي تلف ما حولها بأعمدة الرمال وآثار التفجير, التي لا يعلم آثارها الوخيمة إلا الله عز وجل.

ثانيا: الحفاظ على الثروات والموارد الطبيعية وصيانتها:

لا شك أن التنمية المستدامة تحتاج  إلى حماية الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج المواد الغذائية وتوفير مصادر الطاقة ومواد البناء. وتتمثل هذه الموارد في التربة الصالحة للزراعة، ومصادر المياه اللازمة للري، والثروة الحيوانية والبحرية، والمعادن والوقود ، وتحفل السنة النبوية بالعديد من النصوص التي تحث على حماية الموارد الطبيعية وصيانتها .

فعن بُريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا)، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحهسنوا إن الله يحب المحسنين.

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه).

ومن حرص وعناية الإسلام بحماية الماء ومصادره من التلوث فقد ذكر الماء في أكثر من ثمانين آية في  القرآن الكريم, لأنه اصل الحياة, و عدم تلويثه سواء أكان قي الأنهار ام   السدود ام البرك الأواني أمر مهم و يعد مجرد الزفير فيه شكل من أشكال تلوثه و قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الزفير أو النفخ في الإناء الذي يوجد فيه ماء فكيف إذا لوث بمواد أخرى ؟.

وقد ربطت السنة النبوية الشريفة بين التنمية المستدامة والمحافظة على البيئة ورعايتها، كما ربطت بينهما وبين الإيمان، فجعلت إماطة الأذى من الطريق شعبة من شعب الإيمان، والإحسان إلى البيئة  وما تحتويه من ثروات ومقدرات هو سبب من أسباب رضوان الله سبحانه وتعالى ، والإساءة إليها سبب من أسباب الغضب الإلهي وذلك لان الإنسان مستخلف مسترعى في هذه الحياة وعلية أن يحافظ على هذه  الوديعة ويقوم بواجب الخلافة حق القيام من خلال عمارة حقيقية للكون واستثمار خيراتها واستعمارها بما أمر به الخالق جل وعلا. حيث خلق الله العالم لكي يعمر:   ( هو أنشاكم من الأرض و استعمركم فيها ) الآية 61 ، سورة هود ، أي طلب منكم عمارتها . وهذا يعني إحياء الأرض الميتة, واستمرار صيانتها عن طريق غرس الأشجار , و العناية بالتربة والحفاظ عليها من التلوث والانجراف والإفساد.

ثالثا : الترشيد  في الاستهلاك:

لقد ركز الإسلام في منهجه المحافظ على البيئة بإبراز قيم الرشد والعقلانية في  الاستهلاك وذلك من خلال الأمر بالتوسط والاعتدال في كل تصرفات المرء حيث قال تعالى : (وكذلك جعلناكم امة وسطا) البقرة. وكذلك قوله تعالى : (وكلوا وأشربوا ولا  تسرفوا إن الله لا يحب المسَّرفين) ، الأعراف.

وقال تعالى :" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" الفرقان.

وقد اهتم الإسلام بهذه القضية، فحثّ الأفراد على الاعتدال في شؤون الحياة كافة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا إسراف ولا تقتير. بل جعل عقوبة السرف عذاب جهنم حيث  قال تعالى :"  وان  المسرفين هم أصحاب النار" غافر آية 43,

دعا الإسلام إلى الاقتصاد في الاستهلاك . و مثال ذلك مرور رسول الله صلى الله عليه و سلم بسعد بن ابي وقاص و هو يتوضأ , فقال له ( لا تسرف في الماء ) . فقال سعد : " و هل في الماء إسراف ؟ " قال : " نعم, وان كنت على نهر جار" 1\48 زاد المعاد. 

ولا شك أن الإسراف يفضي إلى مشكلات بيئية لا يقتصر تأثيرها على الإنسان وحده، بل يمتد ليشمل باقي الأحياء التي تشاركه الحياة على كوكب الأرض،حيث  إن معظم الدراسات التي أجريت حول مشكلات التلوث البيئي أكدت على وجود علاقة وثيقة بين إسراف الإنسان في تعامله مع مكونات البيئة المختلفة وبين التلوث البيئي بجميع أشكاله.

رابعا: الدعوة إلى النظافة العامة والشخصية :

لقد شدد الإسلام على قضية النظافة سواء العامة أو الشخصية وذلك لان النظافة المرتكز الأول من مرتكزات حماية البيئة بل واقترنت النظافة والطهارة في الإسلام بالإيمان واعتبر التلوث نجاسة كريهة يجب على المسلمين أن يتطهروا منها، لأن الطهور شطر الإيمان، قال تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين"، وقال تعالى :" وأنزلنا من السماء ماءً طهورا". وقد وردت لفظة (الطهر) في القرآن الكريم أكثر من 30 مرة.

 كما أمر نبينا الكريم بتنظيف البيوت والأفنية حيث ورد في الحديث الشريف:" نظفوا أفنيتكم" كما أمر بقص الأظافر وتنظيف الشعر  والاستحمام والتطيب وكل هذه الأفعال هي من مقومات النظافة المؤدية إلى حماية البيئة والمجتمع من التلوث والأمراض والتلف، قال تعالى :" يا بني ادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين" الأعراف آية 31.

وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية, والسواك, واستنشاق الماء, وقص الأظافر, وغسل البراجم - أي عقد الأصابع ومفاصلها – ونتف الإبط، وحلق العانة, وانتقاص الماء), و"الختان")

هذا وقد جعل الإسلام حماية البيئة ونظافتها من الإيمان, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة, فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره, فشكر الله له فغفر له". 

رابعا: الحفاظ على  التوازن البيئي:

في مجال المحافظة على التوازن البيئي، دعا الإسلام إلى المحافظة على هذا التوازن. ومن المعروف أن الله خلق كل شيء بقدر، حيث   ينظر الإسلام إلى أن ما في الأرض نعم إلهية يجب على الانسان أن يحافظ عليها ويستغلها بحكمة ورشاد:( إنا كل شيء خلقناه بقدر )القمر، آية 49،    و في هذا إشارة إلى التوازن البيئي . لذلك على الإنسان أن يجعل هذه النظم مصدر نعمه و ليس مصدر   نقمة فالحاجة إلى التعامل معها على أسس عقلانية أمر يؤكده الإسلام ، حيث حرم الإسلام العبث في موارد الثروة و عناصر البيئة و حرم التعامل معها  بصورة عشوائية طائش , كقتل الحيوانات عبثا و قطع الأشجار وصيد الطيور بشكل جائر ، قال تعالى : " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها إن كنتم مؤمنين" الأعراف ، آية 85.

ومن فقه الإسلام في هذا الإطار هو ما وصى به أبا بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان حينما أرسله على رأس جيش إلى الشام فقال له:" وأني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله ، ولا تغرقن نخلا ولا تحرقنه، ولا تغلل ولا تجبن".

إن هذا الفكر يدل على بعد النظر ، حيث ثبت علميا بأن كل مخلوق في هذا الكون من حيوان أو طير يعتمد على بعضة البعض حتى الحشرات والقوارض لها من الفوائد الشيء الكثير، ومثال ذلك ما قامت به إحدى الدول الأوروبية من ابادة لنوع معين من الطيور كان يأكل بعض ثمار المحصول ولكن المحصول أصيب بالتلف في ذلك العام حيث تبين  أن هذا الطائر كان يتغذى على هذه الحشرات الضارة التي أتلفت المحصول مما دعا الجهات المختصة للتوقف عن القضاء عليه ، فسبحان الله الذي جعل  شيء بقدر. 

وفي مجال الرفق بالحيوان روى ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وُسِم في وجهه، فقال: لعن الله الذي وسمه)،  وعن عبد الله بن جعفر (رضي الله عنهما) قال : أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرّ إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش النخل، فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)، وعن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة).

لقد ركز المنطق العقائدي في الإسلام على فهم العلاقة بين الإنسان والبيئة والتوازن البيئي وذلك من خلال تشريعات خاصة لحماية البيئة والترشيد في الاستهلاك للموارد والاعتدال في تصرفاته.

                                                                     

خامسا: الدعوة إلى التنمية الاقتصادية والعمرانية مع الحفاظ على الموارد الطبيعية:

دعا الإسلام إلى العمل والجد وتنمية البلاد عمرانيا واقتصاديا من خلال العمل بالأرض وزراعتها

 فقد نهى الإسلام عن ترك  الأرض قاحلة بورا وتركها بغير زراعة، بل يدعو للاهتمام بالزراعة وبيان الغاية منها بالنفع على الإنسان والحيوان ـ جاء في الحديث الشريف:" ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" رواه البخاري. بل لقد اعتبر الرسول عليه السلام غرس الأشجار وتطهير الأنهار، وحفر الآبار، وغيرها من الأعمال النافعة، صدقة جارية، حيث قال: "سبع يجري للعبد أجرهن، وهو في قبره بعد موته: من علم علماً، أو كرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس شجرة، أو بنى مسجدا....) .وقال أيضاً (من بنى بنياناً في غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً، في غير ظلم أو اعتداء كان له أجراً جارياً ما انتفع به خلق الرحمن).

كذلك فقد دعا الإسلام إلى أحيا الأرض الموات وهذه دلالة على عدم جواز تعطيل الأرض بدون زراعه وإعطاءها لمن يزرعها ، وهذه دعوة للتشجير والتخضير وزرع الصحراء والأرض البور ، "فمن أحيا أرضا ميتة فهي له" .

إن ما قدمنه من مرتكزات للبيئة المستدامة في التصور الاقتصادي الإسلامي إنما هو غيض من فيض فهذا الموضوع يحتاج إلى الكثير من البحوث والدراسات لتجليته وتبيانه وسنسعى إلى ذلك في أبحاث ودراسات قادمة بعون الله تعالى .

- للأمانة العلمية : أثناء كتابة هذه الدراسة  تم الرجوع إلى العديد من المراجع والمقالات والكتابات للكثير من الباحثين والفقهاء والعلماء في هذا المجال ، فجزاهم الله خيرا.