حلب العاصمة

عبد الحكيم الأنيس

عبد الحكيم الأنيس

(كُتبتْ بمناسبة انعقاد ندوة"الحركة العلمية والأدبية في حلب زمن الأيوبيين" سنة اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية 2006م)

وبعدُ: فلعلَّ من الجميل في هذا اليوم الجميل أنْ نبدأ بهذه الكلمات الخاشعة التي كانتْ تنبعثُ مِنْ أرجاء حلب, يترنَّمُ بها لسانٌ ذاكر, وقلبٌ حائر, وعقلٌ ضاق بحجب الدنيا:

اللهُمَّ يا قيّام الوجود, وفائضَ الجود, ومنزِّل البركات, ومنتهى الرغبات, منوِّر النور, ومدبِّر الأمور, واهبَ حياة العالمين, امددنا بنورك, ووفقنا لمرضاتك, وألهمنا رشدك, وطهرنا من رجس الظلمات, وخلصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك, ومعاينة أضوائك, ومجاورة مقرَّبيك, وموافقة سلطان ملكوتك, واحشرنا مع الذين أنعمتَ عليهم من الملائكة والصديقين, والأنبياء والمرسلين...

أجلْ - أيها الإخوة- كان هذا في حلب, المدينة التي نحتفلُ بها عاصمةً للثقافة الإسلامية, وحلب كانتْ وما تزالُ عاصمةً, فهي من العواصم اسماً, وهي عاصمةٌ في أدوارٍ متعددة من التاريخ حقيقةً, وهي بلدةٌ تليقُ بالخلافة كما قال الرحالةُ الأندلسيُّ ابنُ جبير، أي أنها تليق أنْ تكون عاصمةً للدنيا, وحسبُها ذلك تقديراً.

حلب هذه الورقاءُ الأليفة تترنَّم اليومَ, وقديماً كان شاعرُها علوان بن عبد الله يتساءلُ فيقول:

سل البانةَ الغنّاء هل مُطِرَ الحمى                        وهل آنَ للورقاء أَنْ تترنَّمــــا

وهل عَذَبات الرنْد نبَّهها الصَّبــــا                   لذكرِ الصِبا قِدْماً فقد كُنَّ نوَّما

وحلب التي سكتتْ بعد بني أيوب، وخاطبَها مؤرّخُها ابن العديم باكياً فقال:

فيا حلباً أنى ربوعك أقفرتْ                               وأعيتْ جواباً فهي لا تتكـــلَّمُ

حلب هذه عادتْ تتكلم, وتُسْمِعُ العالمَ صوتها.

والبرقُ الذي انطوى كما قال السُّهروردي:

فكأنّها برقٌ تألق بالحمى                         ثم انـطــوى فـــكـأنه ما أبرقا

هذا البرقُ عاد في سمائها يخطفُ الأبصار, ويبعثُ الأفكار, فلنردد مع السهروردي مرةً أُخرى قوله من قصيدة أخرى:

وتمتعوا فالوقتُ طابَ بقربكمْ                             راقَ الشرابُ ورَّقـــت الأقداحُ

نحتفلُ بحلب ولم لا؟

ألسنا حين نحتفلُ بها نحتفلُ بتاريخٍ مشرقٍ - رغم النكبات-.

وألسنا حين نحتفي بها نحتفي بنهوضٍ متوالٍ - رغم الصَّدمات-.

وألسنا حين نعتزُّ بها نعتزُّ بتطلعٍ إلى العُلا- رغم المُحبطات-؟

ألم يكن يُرحَلُ إلى حلب مِن المشرق والمغرب طلباً للأمان, أو سعياً وراء العلم, أو رغبة في التعليم؟

ألم يَستنشقْ نسيمَ حلب العراقيُّ والمصريُّ والمغربيُّ والأندلسيُّ والغزنويُّ والمقدسيُّ فلماذا لا نرحلُ اليوم إليها، ونستنشقُ نسيمها؟

حلب عَرَفت منحَ اللجوء السياسي.

وحلب أطلقتْ مصطلح "الأمة العربية".

وحلب بنتْ للثقافة مكتبةَ كبرى، وإنْ توزعت كتبها الآن في الأقطار.

وها هي خطوطُ علمائها في المكتبات العالمية.

حَسْبُ حلب أنها أخرجتْ "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع", و "معجم البلدان"، و"معجم الأدباء"، و "إنباه الرواة"، و "شرح لامية العرب"، و "الأعلاق الخطيرة"، و "بغية الطلب"، والكثير الكثير غيرها.

حَسْبُ حلب أنْ يكون ابنُ خلكان القاضي المؤرِّخ العظيم قد تخرّج فيها.

وأنْ يكون الحكيمُ موفقُ الدين عبد اللطيف البغدادي قد أوى إليها.

وأنْ يكون سائحُ الأرض الهروي قد استراح مِنْ وعثاء السفر في أرضها.

وأنْ يكون إمامُ العربية ابنُ مالك قد تصدَّر للتعليم فيها.

 

ولكن هل تَسْتمدُّ حلب فخرَها من هؤلاء، أم هي التي تمنحُ هؤلاء وغيرَهم مجد الذكر، ورفعة القدر؟

كان هذا كله في زمن الأيوبيين, فهل هُناكَ مِنْ دليلٍ أدل على صواب اختياره موضوعاً لهذه الندوة العلمية الجامعة؟

لقد عمرتْ دولةُ ملكها الظاهر غازي بالعلماء والعظماء, وهذه شهادة.

وياقوت الحموي يقولُ عن حلب بعدَ الظاهر: "وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ, والفضلاء الرواشخ" , وهذه شهادة أخرى.

ويصل ابنُ خلكان إلى حلب طالباً للعلم سنة ست وعشرين وست مئة فيقول: "وهي إذْ ذاك أمُّ البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين" , وهذه شهادة ثالثة.

ويقدِّم لنا القفطيُّ صورةً عن ثقلِها العلمي فيقول في ترجمة النحوي سليمان بن محمد الحلي اليمني: "سمعتُ أنه اجتاز بحلب في شهور سنة سبع وعشرين وست مئة، واجتمع بنحاتها, فلم يجدوا عنده شيئاً يُوجبُ التصدر".

فهي تَمتحنُ العلماء, وتمنحُهم الدرجات العلمية، وهي شهادة رابعة.

وفي حلب شُيِّدَ في هذا العصر - الذي لم يمتدَّ سوى تسع وسبعين سنة- شُيِّدَ أكثر من ثلاثين مدرسة - زيادةً على ما سبق-، وهذه شهادةٌ خامسة.

والقائمة تطول...

لقد أحسنتم باختيار هذا الزمن, وأحسنتم بالوقوف عند الحركة العلمية والأدبية... فبالعلم يرتقي الإنسان, وبالأدب يسمو الوجدان...

العلمُ هو السبيلُ الأمثلُ إلى تلاقح الحضارات, وتعايش الثقافات, وتواصل القارات.

وقديماً قال الخليفةُ المأمون: غلبةُ الحجة أحبُّ إليَّ من غلبة القدرة، لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.

اغلبني بحجتك أكن لك مطواعاً, ولا تغلبني بقدرتك, لأني سأقاومك مهما استطعتُ... فلتسكت الفوهات, ولتنطق الشفاه...وإلا فلتنطقا معاً.

ولهذا نقول: لا تسمحوا لهولاكو أن يدخلَ حلبَ مرةً أخرى.

وقولوا لهولاكو: إنَّ (باب النصر) في حلب مازال قائماً, وقد ازدادتْ حجارتُهُ -على مرِّ الأيام- صلابةً, وقوسُه لا يَسْمحُ لغير أهله أَنْ يعبروا مِن تحته.

إنَّ صوتَ ابن العديم ما يَزال ينبعثُ من وراء القرون الخالية, يُنشد بلحنٍ حزين راثياً حلب حين اجتاحها هولاكو:

فيــا لــك مِــن يومٍ شــديدٍ لـــغامُهُ             وقد أصـبـحتْ فـيـه المساجدُ تُهدمُ

وقد درستْ تلك المدارسُ وارتمتْ         مصاحفُها فوق الثرى وهي ضُخَّمُ

وكـــلُّ مــهـاةٍ قـد أُهـيـنــت ســبيةً              وقد طالما كانـتْ تُـعــزُّ وتـُـكـْــرَمُ

تُنادي إلى مَــنْ لا يـُجـيبُ نداءَهـا          وتشكو إلى مَنْ لا يـــرقُّ ويـَـرحمُ

المساجدُ تُهْدمُ, والمدارسُ تُعْدمُ, والمصاحفُ تُرمى, والنساءُ تُغتصب وتُسبى, هذا ما كان في حلب, وهذا ما كان في بغداد...

ويُريدُ هولاكو أنْ يعيد التاريخ, ولكنَّ التاريخَ لنْ يكون في يد الطغاة.