وجع بغداد

عبد الحكيم الأنيس

عبد الحكيم الأنيس

(كُتبت لـ ندوة "النصر والهزيمة بين التبعية والاستقلال" المنعقدة في دبي مساء يوم رمضاني 19رمضان1419هـ =6/1/1999م بعد ضرب العراق وقصفه آنذاك)

أنا قادمٌ من هناك, وأحبُّ أنْ أقدِّم شهادتي وكلمتي, وينطبق عليّ قولُ أبي تمام:

في الشام أهلي وبغدادُ الهوى وأنا            بالـرقـمتـيــن وفي الفسطــاط إخواني

وبغداد الهوى نعم, وهي الهوى والهدى, ومَنْ منّا لا يحب هذه المدينة, ومَنْ منّا لم تشده أجواؤها الساحرة, وتاريخُها العريق, ومَنْ منّا لم يتغذَّ بثمارها وأطايبها في عالم الفكر والمعرفة؟

ولكن هذه المدينة اليوم كما صوّرها رسامٌ في جريدة (الخليج) في مطالع رمضان: فتاة دامعة العينين، وهي تقول: كل رمضان والعرب بخير...

هذه المدينة اليوم يؤذيها أنْ تشوه حرائقُ الانفجارات وجهَها الوديع، وأنْ يهتزَّ مرقدُ أبي حنيفة، وموسى الكاظم, وأنْ يختلط ماءُ دجلتها بدماء أبنائها, وأنْ يُقصف جسرُها فلا تستطيع عيونُ المها العبور من الرصافة إلى الكرخ, ويُؤذيها أنْ تتصدع جدرانُ قصرها العباسي - الأثر الباقي من تاريخٍ حافل ومجدٍ شامخ-.

أترى الصواريخ تثأر من ذلك الماضي المجسّد في هذه الآثار؟

هذه المدينة يُؤذيها أنْ تنحني رؤوس نخيلها, وتتهشمَ أعالي منارات مساجدها.

وإذا كان أبو العلاء المعري قد قال حين زارها:

وردنا ماءَ دجلة خير ماء                    وزرنا أشرفَ الشجر النخيلا

فإن ماءَ دجلة اليومَ ملوّث, والنخيل منكفئ على ذاته يبكي, ولا يفرغ لاستقبال أحد.

وإذا كان "نزار" قد جَعَلَ المرأةَ وجعهُ ووجعَ النايات, فإنني أرى بغداد اليومَ هي الوجع العربي, وهي وجعُ النايات الحزينة في ليالي الحرمان والشقاء والعذاب, وحُقَّ لها فإنّها:

كانت عروساً في النضارة والبها                      واليومَ تبدو كاليتيم الضــائــعِ

أنى التفتَ رأيـتَ ثمـــة عــاريــاً                         وسمعتَ أنة مستضامٍ جــائـعِ

بغدادُ يا جرحي أيرجعُ ما مضى                     مِن بهجةٍ أم ذاك ليس براجعِ؟!

أيها السادة:

(النصر والهزيمة بين التبعية والاستقلال) موضوعُ الموضوعات, وهو هَمُّ الأمة من المحيط إلى الخليج, وما أحرانا بالمدارسة والمباحثة والبوح بما يعتلج في الصدور, وقد قال الشاعر:

ولابد مِنْ شكوى إلى ذي مروءة                      يُواسيك أو يسليك أو يتوجع

والعواطفُ - في التأثير والفاعلية- كالقواصف, وأسألُكم مَنْ منا لم يهتز لصرخة أبي راشد المدوّية حين قال: "تختلط بداخلي مشاعرُ الحزن بمشاعر الغضب على ما أشاهدُه من ضرب العراق".

لقد كانتْ هذه الكلمة أجملَ وأطيب عشاءٍ على مائدةِ اليوم الثاني من رمضان, وكانتْ قبساً لألاءً في ليل الصمت والسكون, وكهوفِ الوحشة والخوف.

وفي اتصالٍ من هناك, من أرض الوجع قال لي قائلٌ: لقد انفجرتْ عائلتي بالبكاء حين رأوا متظاهراً يتسلَّق مبنى السفارة لينزل العَلَمَ ويقطعَه...

لسنا عدائيين, ولا نؤيد العُنف, بل نكره ما يُثيرُ الأحقاد, ويباعِدُ ما بين الشعوب, ولكن حين يقع الظلمُ فالأمرُ يختلف, والله يقول: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم).

وأستعيرُ هنا كلمةً للدكتور سعيد حارب يقول فيها: (الثقافة العربية الإسلامية قدَّمتْ الدليل دوماً في تاريخها القديم والحديث على أنها ليست معادية لأية ثقافة أخرى, وأنها تحترم سائر الثقافات, وأنها أفضل ثقافة تحقق في تاريخها تمازجُ الثقافات, وأن جوهرها الإسلامي قوامه العفو والتسامح والمحبة والرحمة).

أيها السادة:

لا أريد أن أطيلَ, ولكني لابدَّ أن أجيب على التساؤل المطروح: ما المخرجُ من الوضع السلبي للأزمة؟

المخرجُ هو أن يزحف الشعب العربي على (واو) الشعوب فيجتثها من جسده، فهي ورمٌ قتالٌ.

المخرجُ هو وحدة (الشعوب) العربية والإسلامية لتكون (شعباً)، ولكن كيف؟

نحن ندعو إلى التقارب، والتحابب, والحوارِ بيننا وبين الشعوب كافة, والله يقول: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) لتعارفوا, يجب الوقوف طويلاً عند هذا الهدف, فإذا كان التعارف مطلوباً بين الإنسان وأخيه الإنسان فهو مطلوب بين العربي وأخيه العربي, والمسلم وأخيه المسلم, أولاً وآخراً.

يجب أن نسامح وأن نصالح, وأن نرتقي إلى مستوى الخيرية التي عبَّر عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام"، وهنا يأتي دور الإعلام بكافة منابره, ويا له من دورٍ شريف نبيل عظيم, والمصيبة كلَّ المصيبة أن يقوم الإعلامُ بدور "السام الأبرص" الذي كان ينفخ في نار إبراهيم, ليزيدِها ضراماً واشتعالاً..

إنّ الخلاف شؤمٌ, والقتال أشد شؤماً وهضماً, ورجل الموقف والرائد المجاهد هو الذي يعرفُ ما وراء الأكمة, فينادي بالتحذير والتبصير, والتنذير والتدبير...

وما يُخطط وراء البحار يتطلب النذير العريان.

إن الله يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) أي تجبنوا.

واسمحوا لي أن أبين أن الفشل في لسان العرب هو الجبن والضعف لا الإخفاق كما هو شائع على الألسنة اليوم, وهذا أدق وأبين في التوجيه وفي الأثر, فإنا إذا تنازعنا جبنا أصلاً عن دخول معركة  فضلاً عن دخولها ثم الإخفاق فيها.

هذه هي الفلسفة القرآنية ولكننا اليوم نقرأ ولا نقرأ، وكما قال الدكتور مانع سعيد العتيبة:

حتى كتاب الله نتلو آيه                     من غير إدراكٍ فلا نتوجفُ

يقولُ الصحابيُّ الجليل سليمان بن صرد: كنتُ تخلفتُ عن "علي" يومَ الجمل فأتيت الحسن بن علي- بن أبي طالب- فكلمتُهُ واعتذرتُ إليه فقال: لا يهولنك, فلقد رأيتُهُ- يقصد والده- والسيوفُ بيننا فالتفتَ إليّ فقال: يا حسن ودَّ أبوك أنه مات قبل هذا اليوم بعشرين عاماً.

فما أثقل قتالَ العرب المسلمين فيما بينهم على قلب علي !

وما أحوجَ الأمة اليوم إلى أنْ تستشعر هذا الثقل, وأن تتخيله جاثماً على قلوبها ساعةً من نهار, فلعلها أن تقول للماضي: وداعاً, وأن يَسمع القرنُ المقبل منها كلمةً واحدة تنطلق مِنْ فمٍ واحد: أيها القرن: لقد استيقظ الماردُ النائمُ, وخرج من القمقم إلى مكانه اللائق بين الأمم.

ولننظرْ فإنَّ أمنية "علي" هذه حفرت في قلب الحسن، فأعلن فيما بعد قراره الشجاع المتسامي على شهوات النفس وبريق الدنيا, وتنازل لمعاوية, وذهب إلى مدينة جدِّه صلى الله عليه وسلم مؤثراً حياة مسلمٍ على كل اعتبارات الحياة.

إنَّ الزاهدَ قوي, والطامعَ مشدود بحبال رغائبه.

أيها السادة:

مِنْ أجل غدٍ أفضل

مِنْ أجل بيئة لا تلوثها القذائفُ المحملة باليورانيوم الناضب.

مِنْ أجل أطفال ينظرون إلى مستقبلٍ مجهول.

مِنْ أجل حياة آمنة ترفُل بسلامٍ واستقرار وازدهار.

مِنْ أجل تقدُّم علمي يَنقلنا من مؤخرة الركب إلى أوسطه على الأقل.

علينا أنْ نعمل جميعاً لطي الماضي.

لابدَّ من المصالحة والمصافحة.

إنّ مسؤولاً عربياً كبيراً صرّح قبل مدة فقال: (إنَّ ما جمعنا كمسلمين ويهود عَبْرَ حضاراتٍ خلتْ منذ قرون يتجاوز كثيراً ما يفرّقنا في هذا القرن).

ألسنا أولى بهذه المقولة فيما بيننا نحنُ العربَ المسلمين !

وشكراً للدكتور مانع سعيد العتيبة إذ يقول:

نـــاديــتُـكم أبنـاء أمــةِ يــعـــربٍ           باسم الطفولة بالصواعق تُقْذَفُ

باسم الضحايا الأبرياء وباسم مَنْ             ظُلموا بلا ذنبٍ ولا مَنْ ينصِف

ناديتُكم للمرة المليون لموا شملكم             فللم شملِ العرب كم نتلـهفُ...

هــذا النــداءُ هو الأخــيــرُ وبعـده                قد نلتقي بالخير أو قد نأســــفُ