البنيان المرصوص

البنيان المرصوص

د . فوّاز القاسم / سوريا

 ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4)

)) الصف 4

قال علي بن طلحة عن ابن عباس (رض ) قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاديقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه , فنعمل به , فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه , وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به . فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين , وشق عليهم أمره , فأنزل الله الآيات .

 والآيات تبدأ بعتاب الله للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ، واستنكار الله ، بل مقته لهذا الفعل ( والمقت أشد أنواع الكره والبغض ) .

وهذا غاية التفظيع والتقريع ، وهو موقف ينخلع له قلب المؤمن الصادق ، ويرتجف له ضميره الحيّ .

ثم ينتقل السياق إلى الموضوع الأساسي الذي تنزّلت من أجله هذه الآيات المباركات وهو الجهاد في سبيل الله : فهو ليس هو مجرد قتال .

ولكنه ( قتال في سبيل الله ) ، وهذا له مواصفات خاصّة يحبها الله ويرضى عنها .

( إنه قتال الجماعة ، الموحّدة ، المتعاونة ، المتآزرة ، المتراصّة ، صفّاً ، كأنه بنيان مرصوص )

إن القرآن العظيم أيها الأحباب نزل ليبني أمة ، والأمة أول وظيفة لها في هذا الوجود هي : أن تقوم على أمانة دين الله في الأرض , ومنهجه في الحياة , ونظامه في الناس .

ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط , وذات نظام , وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها . وهو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض . وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع منضبط يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي العظيم .

وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي ، بالحاجة الجماعية , في ظل العقيدةالدينية , وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه .

إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من الله سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون . .

وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم . . الصدق . . والاستقامة . وأن يكونباطنه كظاهره , وأن يطابق فعله قوله . . إطلاقا . . وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة .

وهذه السمة في شخصية المسلم يدق القرآن عليها كثيرا , وتتابعها السنة في تكرار يزيدهاتوكيدا : يقول الله تعالى منددا باليهود : (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب . أفلا تعقلون ?). .

ويقول تعالى منددا بالمنافقين: ويقولون: طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ). . ويقول فيهم كذلك: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام , وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)

 ويقول رسول الله [ ص ]:" آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا أؤتمن خان " . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

فهذا بناء أخلاقي دقيق نظيف لضمير المسلم وشخصيته التي تليق بمن يقوم أمينا على منهجالله في الأرض . وهو الأمر الذي تقرره هذه السورة . وهذه حلقة من حلقات التربية في الجماعة المسلمة التي يعدها الله لتقوم على هذا الأمر العظيم .

ولم يكن بد _ في علم الله _ أن يقاوم هذا المنهج الإلهي الجديد للكون أفراد , وأن تقاومه جماعات ، وأن تقاومه طبقات , وأن تقاومه دول .

ولم يكن بد كذلك أن يمضي الإسلام في وجه هذه المقاومة ; ولم يكن بد أن يكتب الجهاد علىالمسلمين لنصرة هذا المنهج , وتحقيق كلمة الله في الأرض .

ولهذا أحب الله - سبحانه - الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص .

ونقف بإعجاب أمام هذا التعبير المدهش ، الذي يعبّر عن الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا عليها: ( صفا كأنهم بنيان مرصوص). .

فهو تكليف فردي في ذاته , ولكنه فردي في صورة جماعية . في جماعة ذات نظام . ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية , ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة ; فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا . صفا سويا منتظما , وصفا متينا راسخا ..

وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم , وتوضح لهم معالم الطريق , وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: صفا كأنهم بنيان مرصوص). .

بنيان تتعاون لبناته وتتضامن وتتماسك , وتؤدي كل لبنة دورها , وتسد ثغرتها , لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها . تقدمت أو تأخرت سواء . وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء . .

إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام . التعبير المصور لطبيعة الجماعة , ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة . ارتباط الشعور , وارتباط الحركة داخل النظام المرسوم , المتجه إلى هدف مرسوم .