مأثرة وزير

عبد الحكيم الأنيس

عبد الحكيم الأنيس

كان ذا أدبٍ غزير, ومعرفة باللغات, وكان يُحسن إلى الجند, عاش ستين سنة, ومات في شهر رمضان سنة (440هـ)... إنّه الوزير الكبير ذو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر ابن فسانجس, وزير العراق وحاكمه.

والمأثرة المشارُ إليها هي أَنَّ أحد شهود منطقة "الأهواز" كَتَبَ إليه هذا الكتاب:

"قد مات فلانٌ, وخلّف خمسين ألف دينار عيناً, ولم يخلّف غيرَ طفلة من جارية, فإنْ رأى الوزير استقراضَ المال إلى أنْ تبلغ الطفلة, ففي عقارها وأملاكها كفاية".

أي أنّ لها ما تعيشُ به غير هذا المال العيني !

فوقّع الوزيرُ على ظهر كتابه هذه الكلمات الرائعات:

"الطفلةُ جبرها الله, والمالُ ثمّره الله, والساعي لعنه الله, لا حاجة بالسلطان إلى المال"[1].

وهذه الكلمات تُظهِر طيبَ معدنه, وبُعْدَ همته, وحسنَ سياسته.

والمسؤولُ الحق هو مَنْ يحفظ للرعية أموالها, ويسهر على مصالحها, ولا يمدُّ عينه إليها؟

وكان موقفُ هذا الوزير موقفاً شرعياً إنسانياً, فيه العفة والنزاهة, والخوف من الله, وفيه تلقين الذين يسعون بالناس شراً درساً بليغاً في الترفق بالناس, وحفظ أملاكهم, وعدم تحريض أحد عليها.

وقد حاول الساعي أَنْ يُلَبِّس على الوزير, وأنْ يُلْبسَ كلامَه ثوبَ الرفق بأَنّ للطفلة من العقار والأملاك ما فيه الكفاية عن هذه الآلاف الخمسين, ولكنَّ الوزيرَ - مع ذلك- سدَّ عليه هذا الباب, ورَفَضَ هذا المقترح, وكانت كلماتُه تَقطرُ طيباً وإخلاصاً وعفة ونزاهة, فهو يدعو لهذه اليتيمة أنْ يجبرَ اللهُ كسرَها, وللمال أنْ يزيدَه اللهُ لها, وأنْ يطردَ هذا الغشّاش منْ رحمته, ثم يصرخ في وجهه صرخة تُبيِّن له عزةَ الحاكم المخلصِ العاقل: "لا حاجةَ بالسلطان إلى المال".

نعمْ فهل يتموَّل السلطانُ بمال الرعية, وهل يُعطي السلطان أو يَأخذ؟

               

[1] _ من الوافي بالوفيات (2/304).