الطيرة في ميزان الإسلام

الطيب عبد الرازق النقر

الطيرة في ميزان الإسلام

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

رغم بعد العهد، وتقادم الزمن، ما زال بعض الناس يؤمنون ايماناً راسخاً لا سبيل إلي زعزعته بأشياء أنكرتها المحجة البيضاء وارتابت فيها، ولسنا في حاجة إلي اقامة الأدلة، وبسط البراهين، التي تؤكد نبذ الإسلام للتشاؤم الذي كان له مكانة سامقة عند الجاهليين الذين نشروا فينا ترهاتهم ثم انصرفوا بعد أن شيدوا في خاطرنا المكدود أسقاماً وعقابيل، والحقيقة التي لا يرقأ إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن العصر الجاهلي كان حافلاً بالطيرة، فياضاً بها، فالجاهلي الذي يجوب الفلوات والصحاري طلباً للكلأ والماء، كانت حياته مكبلة بقيود التشاؤم، مثقلة بأغلال التطير، وتلك حياة يعزّ على بعضنا أن تضيع، فطمر هذه الحقبة ودفعها إلي زاوية النسيان دونها خرط القتاد، فمن يعيشون في سجية الماضي يعشقون الطيرة ويسرفون فيها ويتهالكون عليها، ويحرصون كل الحرص أن تبقى مصانة من شبح الفناء، فالبراهين الساطعة، والدلائل الناطقة، والشواهد الصادقة، تجزم بأن هذه الناجمة التي ثقفت مناهج الخطل، وحذقت أصول الضلال، تحتكم في كل شاردة وواردة من أمرها لمبادئ الطيرة وتدعو إليها وتتخذها حداء لمسيرتها.

ونحن إذا رجعنا القهقري للقروم الفحول الذين تضاربت أهواؤهم، وتناقضت أحكامهم، وتباينت عقائدهم، في مذاهب التشاؤم لوجدنا أن أعينهم كانت تشرق بالجذل، وأفئدتهم تفيض من الغبطة، لأن السوانح والبوارح من الطير والهوام لم تعترض طريقهم، فالجاهلي الذي يزمع الرحيل إذا أراد سفراً خرج من الغلس والطير في أوكارها على الشجر فيطيرها، فإذا أخذت يميناً أخذ هو يميناً، وإن اتجهت شمالاً لزم الشمال ولم يبارحه، ومما لا يند عن ذهن، أو يغيب عن خاطر، أن اتجاهات تفكير الجاهلي، والتفاتات ذهنه تصب حول استجلاء صفحة السماء، والاصغاء إلي كل ما ينذر بالشر الوبيل قبل أن يشرع في رحلته اللاغبة، فمن أنبتتهم العبقرية، وأرضعهم النبوغ، أقاموا فلسفتهم الخالدة على تشويه صورة الغراب الداكن في كل مخيلة، ورميه بفرية النحس وجلب الدواهي، و" العرب أعظم ما يتطيرون منه الغراب، والقول فيه أكثر من يطلب عليه شاهد، ويسمونه حاتماً لأنه يحتم عندهم بالفراق" ومن أمثلة هذا التطير ما ذكره النويري صاحب نهاية الأرب في معرفة أحوال العرب حيث يقول:" إذا خرجت فرأيت غراباً ناشراً جناحيه من فوقك فامض، وإن نعب فأرجع يومك، وإن خرج ـــــ أحدهم ــــ من منزله فاستقبلته جنازة فليرجع ولا يعود فإنها غير مقضية، وإن كانت الجنازة قد جاوزته فليمض لغرضه، وإن خرج فرأى بعيراً قد شرد فاجتمع عليه الناس فإن ذلك يدل على ظفره بعدوه"، ولعل هذه التصرفات الممجوجة التي لم ينزوي عودها، أو يتضعضع عمودها، هناك من يحصّن عزتها، ويحرس غفلتها، فالطيرة التي تعنو لها وجوه هؤلاء، وتخشع لسلطانها أفئدة أولئك، لم توطد عرشها عندهم بقوة الروح، أو عبقرية الذهن، بل لاطفاء جذوة العقل، والهيام بزخرف الأضاليل، أقول هذا رغم يقيني بأن الطيرة الحظية بالتأنيب، المستحقة للتعنيف، مؤصلة في دواخلنا، لأجل ذلك قال خير من وطئت أقدامه الثرى في الحديث الذي أخرجه أحمد:" من عُرِض له من هذه الطيرة شيء، فليقل اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم" وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له" وفي هذا المعنى أيضاً يقول شفيعنا يوم الكرب العظيم في الحديث الذي أخرجه الترمذي:" الطيرة من الشرك وما منّا ولكن الله يذهبه بالتوكل"، أي " ما من أحد إلا ويخطر له من جهة الطيرة شيء ما لتعود الناس عليها" ولابن العربي كلام يسترق الأفهام، ويستعبد الأسماع، فهو يرى أن الطيرة في كنهها زجر وهي " نوع من التعلق بأسباب يزعم المتعلق بها أنها تطلعه على الغيب، وهي كلها كفر وريب وهم يستعجله المرء إن كان حقاً، ولا يقدر على دفعه إن كان قدراً مقدورا، ولذلك جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرك، فانهم يريدون أن يشركوا الله في غيبه، ويساوونه في علمه".

ولكن الإسلام حين حرّم الطيرة أباح الفأل، فقد روى سيدنا أبوهريرة رضي الله عنه

في الحديث الذي أخرجه مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا طيرة وخيرها الفأل، قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" وقد ذكر الأبشيهي في سفره القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل الصالح، والإسم الحسن، وأبان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة على كلثوم دعا غلامين له يا بشار ويا سالم فقال النبي المعصوم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم لسيدنا أبوبكر رضي الله عنه:أبشر يا أبابكر فقد سلمت لنا الدار" وصفوة القول أن الإسلام حرم الطيرة كما يرى الدكتور اليأس بلكا مؤلف كتاب"استشراف المستقبل في الحديث النبوي" نقلاً عن اساطين العلم، وجهابذة المعرفة، لما فيها من التشويش على صفاء التوحيد، ولأثارها النفسية السلبية وما تبعثه على أصحابها من التشاؤم والاكتئاب، فالطيرة اختصت أن تستعمل في الشؤم، بينما جوز الدين الفأل لأنه يشجع على النظر إلي المستقبل نظرة أمل وتفاؤل لا خوف وتشاؤم، فمنع اليأس الذي طالما نحر الأفراد والشعوب، وحطم قدرتهم على المقاومة والنهوض، ودعا للفأل الذي تنشرح له الأنفس وتقبل عليه، لما فيه من الاستبشار بقضاء الحوائج، وبلوغ الأمال.