العقل الديني والسلطة..البوطي ليس استثناءً!

عماد العبار

لا يحتمل موقف الدكتور البوطي من الثورة السورية أي تأويل، فلقد كان موقفه شديد الوضوح منذ اليوم الأول لانطلاقتها، حتى أنه لم يكتفِ بموقف من الثورة كظاهرة مجرّدة بل تجاوز ذلك فأخذ موقفاً شخصياً من الثوار أنفسهم متهماً إياهم باتهامات لا سند لها سوى رواية الإعلام السوري الرسمي، وكنت قد كتبت في بداية الثورة مقالاً فنّدت فيه ادعاءاته واتهاماته الباطلة للثوار الذين كانوا في البداية عبارة عن بضع عشرات من المتظاهرين العزّل في الجامع الأموي ومن جملة ما قال فيهم أنقل عنه حرفيّاً (لا تعرف جباههم السجود ولا يعرف جزع الواحد منهم الركوع وموضوع الصلاة غائبٌ عنهم ووجودهم في المسجد شيء غريب ولا يصلّون !!)، تطوّر موقف الرجل مع تطوّر مجريات الأحداث التي تحوّلت إلى تصفية حسابات إقليمية بإدارة دوليّة فوصل موقفه أقصى حدود الشطط متزامناً مع تدرّج الوضع الداخلي واتجاهه نحو أقصى حدود الفوضى. لن أعود لتفنيد أقاويل الشيخ هنا فلقد أخذ هذا الأمر أكثر مما يستحق، ولكن ما يجب علينا العودة إليه مراراً وتكراراً هو العقلية الدينية التي أفرزت موقف الشيخ البوطي من السلطة ومن أي تحرّك ضدها. الرجل، الذي شغلت مواقفه السياسية وخصوماته الفكرية ونتاجه (الذي لا يمكن نكرانه) اهتمام الأجيال على مدى العقود، يعتبر ممثلاً لمؤسسة دينيّة تعاني من وجهة نظري من خلل كبير يجعل إصلاحها من الصعوبة بمكان

يستغرب الكثيرون من موقف الشيخ من النظام السوري وكأن السّمة العامة لمواقف المؤسسة الدينية من الأنظمة المستبدة مختلفة عن موقفه، صحيح أنه بموقفه بلغ أقصى حدود التطرّف في التماهي مع سلطة مستبدّة، لكن جذر هذا الموقف هو من صلب موقف المؤسسة الدينية الرسمية من الأنظمة، وإذا لم ندرك هذه النقطة بالذات فإننا لن نصل إلى حلّ لمشكلة الموقف المشيخي من الحاكم أو ولي الأمر وهي مشكلة لم تظهر اليوم ولا قبل مئة عام، بل تعود جذورها البعيدة إلى الأيام الإسلامية الأولى حين بدأت الخلافة تتحوّل ملكاً عضوضاً، حينها حمل غالبية العلماء والمشايخ هاجس الخوف من الفتنة وتوسّعوا في سدّ أبوابها فكان أن وقعوا في الفتنة نفسها من شدّة المبالغة في ممالأة الحكام وفي المبالغة في صدّ الناس عن الخروج على الحاكم، ولا عجب، فلم يكن هنالك أي تصور آخر لديهم عن الخروج سوى الخروج المسلّح، علماً أن النصوص التي تجعل من الخروج الشرعي لقول كلمة الحق في وجه سلطان جائر نصوصٌ لا يأتيها باطل ولا يجادل في صحّتها اثنان! إذن الأزمة ليست أزمة الشيخ البوطي، ولا يدرك ذلك من يعيش تبعات الأزمة أو يتورّط فيها بشكل أو بآخر!، أذكر هنا أن للشيخ خصومات فكرية معروفة اعتمدها بعض المحلّلين لتفسير سبب التقارب بينه وبين النظام في سوريا لعقود طويلة، فخصومته (وفق هذا التحليل) مع حزب التحرير الإسلامي ثم مع حركة الإخوان المسلمين بعد ذلك أدى إلى التقارب بينه وبين النظام الحاكم، ثم ساهم عداؤه لتيار السلفية الجهادية (حسب نفس التحليل) إلى ترسيخ هذا التقارب بعد ظهور السلفية الجهادية كعنصر فاعل في الحدث العالمي بعد أحداث أيلول، وهنا في الواقع لا أنكر أن لهذه الخصومات دور في موقفه بدرجة ما، ولكني أدّعي أنه دور جزئي في النهاية وليس جوهرياً. فخصوم الدكتور البوطي أنفسهم لم تكن مواقفهم أكثر اتزّاناً و إيجابية من موقفه تجاه الأنظمة الديكتاتورية، فإذا تجاوزنا السلفية الجهادية التي انتقلت من التطرف في محاباة السلطة إلى التطرف في معاداة كل ما يرتبط بها، سنجد أن الخط السلفي العام في الدول التي ينشط فيها هذا التيار لم يخرج عن الخط العام للسلطة في تأويل مبالغ به لنصوص دينيّة مختارة بعقليّة انتقائيّة بحتة بشكل يتعارض مع نصوص قطعية أخرى و مع روح النص القرآني، فالخطوط العامة لعلاقة السلفية الدينية مع سلطات بلدانها لا تختلف عن الخط العام لعلاقة التيار الذي يمثّله البوطي مع السلطة الحاكمة في بلده، لا يختلف لا شكلاً ولا مضموناً، فعقلية تعظيم ولي الأمر حاضرة في الحالتين وإن كانت بدرجة أو بأساليب مختلفة (بالإمكان مراجعة موقف غالبية مشايخ السلفية من ولي الأمر وتحريم الخروج عليه واعتبار أن الثورات هي فتن لعن الله من أيقظها!، يمكن أيضاً مراجعة موقف أحد الأصوات السلفية المعتدلة وهو الشيخ عائض القرني في مقالته المطوّلة في تبجيل الملك عبد العزيز وهو بذلك يُسهم في ترسيخ عقلية الولاء لولي الأمر حتى وإن غيّبه الموت، كما يمكن مراجعة موقف بعض مشايخ السلفية الرافض للثورة المصرية في بدايتها). أما بخصوص تيارات الإسلام السياسي التي جعلها البوطي خصماً له أيضاً فلقد عانت بدورها من خلل في طبيعة علاقتها مع الأنظمة الحاكمة، فعلى الرغم من الصدام الدموي المرير بين الإخوان السوريين والنظام الحاكم في الثمانينات إلا أن الخلل الجوهري في علاقتها مع السلطة بدا واضحاً بعد هذه المرحلة بسنوات طويلة، فلقد علقت الجماعة معارضتها لنظام البعث رسميّاً في أعقاب الهجوم الاسرائيلي على غزة عام 2009، ويذكر أنها تحالفت مع أحد أعمدة النظام النائب المنشق عبد الحليم خدام قبل ذلك بسنوات

في الواقع إن أزمة العقل الديني في التعامل مع ولي الأمر تكاد تصيب جميع المنتسبين إلى المؤسسة الدينية إلا من رحم الله، الشيخ القرضاوي (سواء حسبناه على خط الإخوان أم كعلّامة مستقل عن التيارات السياسية) لم يسلم هو نفسه أيضاً من تخبّط المواقف في موقفه من الرئيس العراقي صدام حسين بعيد إعدامه، فها هو يحدّثنا عن ورع الرجل وقراءته للقرآن في سنواته الأخيرة!، لا تختلف هذه المقاربة فعلياً عن مقاربة الدكتور البوطي لنفس الأمر مع مستبد آخر، وهذه عموماً نفس العقلية الدينية التي تقدّم المخارج الشرعيّة للمستبد وتبرر أفعاله التي تفوق في حقيقتها الإفساد في الأرض بمراحل، والمشكلة أنّ الشيخ القرضاوي كان قد عتب على الشيخ البوطي موقفه من رأس النظام في سوريا وكذلك فعل مشايخ السلفية، ولكنهم بدورهم اشتركوا في مواقف متقاربة من مستبدّين آخرين، مواقف يظهر أنها عَرَض لأزمة خطيرة في العقل الديني أفرزت منظومة فقهيّة تحتاج إلى مراجعة كل ما صدر عنها بخصوص العلاقة بين المسلم والسلطة الحاكمة.

غياب الشيخ البوطي عن الساحة لن يغيّر شيئاً في الحقيقة على هذا المستوى، إن وعي هذه الأزمة هو الخطوة الأولى في التغيير إن كان هنالك من أمل يرتجى لإصلاح هذه المؤسسة، وهذا ما لا يمكن الحصول عليه دون القيام بتداخلات جراحية في عمق موروثنا الفكري!. يبالغ كل من يركّز على موقف الدكتور البوطي وحده في هذه الأيام، ويخرج الموضوع عن المنطق بشكل كبير حين يتم تسويق الأزمة على أنها أزمة الدكتور البوطي!. الأزمة هي أزمة مؤسسة وعقلية تفكير عامّة عمرها يزيد عن عشرة قرون.. هذا الخلل ليس بسيطاً على الإطلاق وهو لا ينفصل عن حالتنا الحضارية العامّة، فلا تُحمّلوا الرجل وحده مسؤولية تجيّير الدين لصالح السلطة السياسية، فالكلّ متورّط.. والحل مسؤولية الجميع!.