المقاصدية والسطحية في فكر الشيخ الغزالي

حسام العيسوي إبراهيم

حسام العيسوي إبراهيم

[email protected]

إن الله – تبارك وتعالى- اختار لهذه الأمة خلفاً عدولاً ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، من هؤلاء الرجال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ! فقد كان- رحمه الله- أمة، عرف علل أمته معرفة حقيقية، لكنه لم يقف عند وصف العلل، ولكنه تعدى ذلك إلى تقديم الحلول الجوهرية، فهو بحق من رجال هذا الدين، ومن محاميه الناجحين.

ومن أهم القضايا الفكرية التي تناولها الشيخ الغزالي في كتبه: قضية المقاصدية والسطحية في حياة أمتنا الإسلامية، والمقاصدية معناها: فهم الإسلام من خلال منابعه الأصلية، هذه المنابع التي تحترم اجتهادات العقل البشري، وتنمي قدراته المادية والمعنوية، وهي أيضاً لا تختزل فهم النص في حدود أسباب نزوله، ولكنها تتعدى ذلك إلى فهمه بصورة جديدة، تساعدنا على فهم الواقع، ومعالجة مشاكله، ولهذا إهتم الإسلام بالكليات أكثر من اهتمامه بالجزئيات، وبالمقاصد الشرعية أكثر من اهتمامه بالقضايا الشكلية، وهذا هو التفكير المقاصدي للإسلام، ولذلك كان من أهم خصائص نبي الأمة- صلى الله عليه وسلم- أنه أوتي جوامع الكلم، في إشارة إلى الاعتماد على المقاصد الكلية، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

أما السطحية المقصودة فهي: الوقوف على ظواهر النصوص، وتجاهل مقاصدها القادرة على حل المشاكل الحياتية، بفهم يتسق مع إمكانيات العصر، وتطور الحياة.

وهذا الهدف الكبير، كان يشغل قدراً كبيراً من تفكير الشيخ الغزالي رحمه الله!

ويظهر ذلك جلياً في حديث الشيخ الغزالي في كتابه القيم(فقه السيرة) ففي تعليقه على حديث النبي – صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البيهقي، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لأصحابه: عزمت عليكم ألا تصلوا صلاة العصر، حتى تأتوا بني قريظة، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقال طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله، وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيماناً واحتساباً، وتركت طائفة إيماناً واحتساباً، ولم يعنف رسول الله – صلى الله عليه وسلم- واحداً من الفريقين.

يقول الشيخ الغزالي: وذلك يمثل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر، ما دامت عن اجتهاد بريء سليم، والناس غالباً أحد رجلين: رجل يقف عند حدود النصوص الظاهرة لا يعدوها، ورجل يتبين حكمتها، ويستكشف غايتها، ثم ينصرف في نطاق ما وعى من حكمتها وغايتها، ولو خالف الظاهر القريب، وكلا الفريقين يشفع له إيمانه واحتسابه، سواء أصاب الحق أو ندَّ عنه! ومن العلماء من أهدر الوقت المعين للصلاة بعذر القتال، وذلك مذهب البخاري وغيره، وهذا – عندي- أدنى إلى الصواب؛ فإنه ترتيب الواجبات المنوطة بأعناق العباد من أهم ما يحدد رسالة المسلم في الحياة، بل إنه لا يفهم دينه فهماً صحيحاً إلا إذا فقه هذا الترتيب المطلوب. إن الإسلام تعاليم وأعمال شتى؛ فيها الفرائض، وفيه النوافل، ولابد أن نعلم أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فالرجل الذي يستكثر من أعمال التطوع -في الوقت الذي يهمل فيه فرائض لازمة- رجل ضال. والفرائض المطلوبة لحفظ الإيمان، كالأغذية المطلوبة لحفظ الجسم، وكما أن الجسم لا يقوم بالمواد النشوية وحدها، أو الزلالية وحدها، بل لابد من استكمال جمل منوعة من الغذاء، وإلا تعرض الجسم لعلل قد تنهكه أو تقتله، فكذلك الدين، إنه لا يقام له في كيان الفرد أو في صفوف الجماعة، إلا بجملة من الفرائض الملونة، تصون حياته، وتضمن عافيته ونماءه. وعلى المسلم أن يقسم وقته، وأن ينظمه على هذه الفرائض المطلوبة، فلا يشغله واجب عن واجب، وبالأحرى لا تشغله نافلة عن واجب!

وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن مباغتة بني قريظة قبل أن يستكملوا عدتهم، ويقووا حصونهم، هو الواجب الأول في تلك الساعة؛ فلا ينبغي أن يشتغل المسلم عنه ولو بالصلاة، فحدود وقت الصلاة تذوب أمام ضرورات القتال.

وتستطيع – على ضوء هذا الإرشاد النبوي- أن تحكم على مسالك المسلمين اليوم، إن المدرس الذي ينشغل عن تعليم تلامذته، أو التاجر الذي ينشغل عن تثمير ثروته، والموظف عن أداء عمله، لا يقبل الله من أحدهم عذراً أبداً في تضييع هذه الفرائض، ولو كان أحدهم قد عاقه عن واجبه أنه صلى مائة ركعة، أو قرأ ألف آية، أو عدَّ أسماء الله الحسنى سبعين ألف مرة؛ كما يفعل جهالة المتصوفة، ذلك أنه انشغال عن الفرائض المطلوبة بنوافل لم تطلب، وتعطيل لأمة يستحيل أن تنهض إلا إذا أجهدت نفسها في محاربة جهلها وفقرها وفوضاها. والجهاد العام فريضة لا يغض من قدرها شيء، ولا تزاحمها على وقتها عبادة كما رأيت.

هكذا كان شيخنا محمد الغزالي، كان صاحب تفكير مقاصدي، يتعامل فيه مع النصوص معاملة مقاصدية، تسهم في نهضة الأمة، وتقاوم تخلفها، وتساهم في محو الجهل عنها، بعيدأً كل البعد عن التفكير السطحي، الذي أقعدنا عند حدود الوصف لأمراض الأمة، والتألم لها، دون التقدم بخطوة نحو الأمام.

رحم الله شيخنا الغزالي، وجزاه الله خيراً، على ما قدمه من جهد صادق، وعمل دؤوب في سبيل تحرير العقل المسلم من براثن الجهل والتخلف والنمطية.