في سورية: انتفاضة أم ثورة؟

د. محمد أحمد الزعبي

د. محمد أحمد الزعبي

1. لابد من الاعتراف بداية أن مايجري في بلدي سورية ، هو خطير ومعقد ، بغض النظر عن تسميته بالانتفاضة أو الثورة .

2. فلقد كانت حصيلة المواجهة بين غالبية الشعب السوري ونظام عائلة الأسد ، والتي ( المواجهة ) تمتد باشكال وصور ودرجات مختلفة منذ 1970 وحتى اليوم ، ثقيلة ومؤسفة ومؤلمة ، ولاسيما في السنتين الأخيرتين ، كما تشير بوضوح أعداد ضحايا شهر ينايرمن هذا العام ( 2013 ) فقط ، والتي اخذناها من صفحة الشبكة السورية لحقوق الإنسان على الـ Facebook ، وأيضاً كما تشير أرقام الأمم المتحدة التي أوردتها المفوضة السامية لحقوق الإنسان السيدة نافي بيلاي في تقريرين متتابعين ، لايفصل بينهما سوى أربعين يوماً فقط .

الشهداء : 3742 ، بينهم : 466 طفلاً ، و297 امراة ، أي 763 طفلاً وامراة ، وبإضافة عدد المسنيين إلى رقمي النساء والأطفال ـ تصبح نسبة هؤلاء 22% من مجموع الضحايا ، وهو مايمثل أحد عشر ضعفاً من النسبة المتعارف عليها في الحروب بين الدول ، كما تشير إلى ذلك الشبكة حسابات الشبكة! .

ومن جهة اخرى فقد أبلغت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مجلس الأمن الدولي بتاريخ

12.02. 2013 ، ان عدد ضحايا الصراع في سورية قد بلغ 60 ألفاً ( 59648 ) ، ثم عادت بعد أربعين يوما فقط ( 12 .02. 2013 ) لتبلغ نفس المجلس ، ان الرقم يمكن أن يكون قد قارب الـ 70 ألفاً ،الأمر الذي معه ينبغي إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدواية ، وذلك لتوجيه رسالة لطرفي الصراع بأنه ستكون هناك عواقب لأفعالهما ، على حد قولها .

وإنه لمن المضحك والمبكي معاً ، أن بشار الأسد ، في مقابلة له مع المحطة الأولى في التلفزيون الألماني

أذيعت مساء الأربعاء 13.02.2013 على الساعة الحادية عشرة والربع مساءً ، قد نفى رقم الـ 60000 الذي ذكرته نافي بيلاي في الأمم المتحدة ، وأشار إلى أن العدد الحقيقي (لايتجاوز العشرات!!) ، إن بشار الأسد الذي وصف المعارضة في هذه المقابلة ( بالحثالة !! ) ، يعترف هنا ، وعبر إنكاره لرقم نافي بيلاي أنه هو المسؤول الأول عن قتل هؤلاء الستين الفاً . ألا ينطبق على صاحبنا ، بعد كل هذه الترهات ، المثل الشعبي الذي يقول " اللي استحوا ماتوا " ؟! .

3. ولكي نحدد أن ماجرى ويجري حتى اليوم في سورية هو ثورة أم انتفاضة ، علينا أن نعود إلى الجذر اللغوي لهذين المفهومين من جهة ، وإلى البعد الاجتماعي والسياسي لهما من جهة أخرى :

ــ فمن الناحية اللغوية ، فإن معظم المعاجم والقواميس التي رجعنا إليها باللغتين الألمانية والعربية ،

 لاتشير إلى كبير فرق بين المفهومين ، بل إنها تفسر كلاً منهما في كثير من الأحيان بالآخر ، أو

 توردهما من ناحية المضمون كمترادفين . ولكن بعض المراجع السوسيولوجية تشير إلى وجود فرقين

 أساسيين بينهما ،يتعلقان (إجتماعياً ) بدرجة شمولية الموضوع أفقياً وعمودياً ،ونحن مع هذا التصور.

 إذ بينما يكون التمرد محدوداً على المستويين الأفقي والعمودي(الشعب يريد تصحيح المسار)، تكون

 الثورة من جهة ، شاملة ( معظم الفئات الشعبية إن لم يكن كلها ) ، ومن جهة أخرى ، تكون مطالبها

 وشعاراتها جذرية وكلّية ( الشعب يريد إسقاط النظام) بكل رموزه ومرتكزاته السياسية والأمنية .

 

 ــ لقد نعت هيغلHegel ( 1770 ـ 1831) المفاهيم (Begriffe ) ومن منظور فلسفي مثالي بـ

 Denkbestimmungen أي ( محددات الفكر)لأنها تمثل جملة الصفات التي تميز فئات الأشياء .

 ويمكن أن نضيف إلى هذا أنها (محددات للفعل ) البشري أيضاً ، وبتطبيق هذا على ماحدث ويحدث

 الآن في سورية ، نقع على نوع من الخلطة الكيماوية التي تجمع بصورة معقدة ، وأحياناً غير

 مفهومة ، بين النظر والعمل ، بين الأيديولوجيا والسياسة ، بين الدين والقومية ، بين الماضي

 والحاضر ، بين أعلام الثورة الإسلامية ( الخلفاء الراشدين ) و الثورة العربية ( الشريف حسين )

 والجمهورية العربية المتحدة ( جمال عبد الناصر )والثورة السورية (15 ـ 18 آذار 2011 ) ...الخ ،

 سواء في إطار المعارضة ، أو في إطار النظام ، وسواء أكان مايحدث ثورة أو انتفاضة .

 ويعود السبب في وجود هذه الإشكالية المتعلقة بالتداخل بين النظر والعمل ، ولاسيما فيما بين أطراف

 المعارضة ، إلى الخلفيات الأيديولوجية(الأوثان الاجتماعية ) التي حكمت في الماضي وما تزال تحكم

 في الحاضرالعلاقة بين هذه الأطراف ، رغم انهم يتواجدون عملياً في خندق وطني ونضالي واحد ، هو

 خندق المطالبة بـ " الحرية والكرامة " ، أي ــ تطبيقياً ــ خندق " الشعب يريد إسقاط النظام " .

 

ــ ومن منظور سوسيولوجي ، فإن المفاهيم ، تعتبر انعكاساً فكرياً للواقع الاجتماعي ، وبما أن هذا الواقع

 خاضع للتطوروالتغير، فإن المفاهيم التي تعكسه لابد أن تكون بدورها خاضعة للتطور والتغير ، أي

 أنها تخضع لقانون النسبية الزمانية والمكانية . فما كان يعتبر قبل ألف عام ــ مثلاً ــ ثورة ، قد لايعني

 اليوم أكثر من حركة إصلاحية ، وحتى بالنسبة لنفس الفترة الزمانية ، فإن مايراه فلان ثورة قد يراه

 آخرانتفاضة ، أوحتى مجردعملية ترقيع وترميم للنظام القائم (إصلاح) .

 

ــ لابد من الإشارة هنا أيضاً ، ونحن في إطار محاولة تحديد مايجري في سورية ، أهو ثورة أم انتفاضة

 إلى قانون تحول التراكمات الكمية ، في لحظة من لحظات التطور، إلى حالة " نوعية" جديدة . ومن

 هذا المنطلق فإن الانفجار الشعبي الذي فجرته حادثة أطفال مدينة درعا في محافظة حوران ، لم يكن

 واقعياً سوى المحصلة المنطقية والطبيعية لأكثر من أربعة عقود من تراكمات الاستبداد والفساد

 والقمع الأمني والعسكري المنظم والمبرمج للشعب السوري من قبل نظام عائلة الأسد حيث لم يكن

 باستطاعة أي مواطن سوري ، أن يفتح فمه ، طوال تلك العقود الأربعة ، إلاّ عند طبيب الأسنان

 على حد هذا الوصف الكاريكاتوري لأحد الإعلاميين السوريين !. نعم لقد كانت فترة حكم عائلة الأسد

 وشركاهم ، واتي ابتدأت 1970 ولم تنته بعد ، فترة صمت وكبت ، وبالتالي فترة الضغط الذي يسبق

 الإنفجار .

ــ كما لابد من الإشارة ، فيما يتعلق بهذا الموضوع ، إلى مايعرف عند الفلاسفة وعلماء الاجتماع بـ

 "هجرة المفاهيم " ، من حيث ، من جهة ابتعادها عن جذرها اللغوي إلى " معنىً إصطلاحي" جديد ،

 ومن جهة أخرى ،انتقالها من مجال إلى مجال آخر. فنحن نقول مثلاً : ثورة الشعب (المجال الإجتماعي)

 وثورة البركان ( المجال الطبيعي ) ، و الثورة الصناعية ( الجمع بين المجالين الطبيعي والاجتماعي ) .

 وفي جميع هذه الحالات ، نحن أمام " تراكمات كمية " تتحول في لحظة ما من لحظات تراكمها إلى

 " نوعية " جديدة ، يمكن أن تكون مفاجئة وغير محسوبة أو متوقعة .

4. وأياً كان مضمون كل من هذين المفهومين ( الانتفاضة والثورة ) على الصعيد النظري ، فإنهما يلتقيان على الصعيد العملي ، في خندق سوري واحد ، هو: المطالبة بـ " الحرية والكرامة " ، أي عملياً المطالبة بـ " الديموقراطية " ، التي يصادرها ويغيبها النظام ، ويغيب بذلك الشعب كله.

 إن هذا يعني أننا أمام طرفين في هذه المعادلة الإجتماعية ، سواء أأسميناها ثورة أم انتفاضة ، هما : شعب يريد حقه في الحرية ، ونظام يريد باطله في القمع والاستبداد . والسؤال المطروح هنا : متى ، وكيف ، ولماذا تصل الأمور بين الشعب والنظام إلى هذه الدرجة الدموية من القطيعة ، بحيث تتحول المظاهرات السلمية المطلبية ، إلى مقاومة مدنية وعسكرية مسلحة ، لاتقبل بأقل من إسقاط النظام ؟ .

5. إن ماأوصل الأمور بين " الأغلبية " الساحقة من الشعب السوري ، وبين نظام " الأقلية " ( نظام عائلة الأسد ) إلى مرحلة القطيعة ، وبالتالي " الانتفاضة ـ الثورة " هو ـ بصورة أساسية ـ تغييب النظام لمربع الديموقراطية الذي تتكون أضلاعه الأربعة من : 1) العدالة الاجتماعية ، 2) المساواة في المواطنة ،3) الدستور ، 4) وصندوق الاقتراع النزيه والشفاف . وهو مايعني عملياً تغييبه للشعب عن المسرح السياسي بصورة تامة وكلية ، وبغض النظر عن أكاذيب الممانعة والاستفتاءات المزورة .

إن ما يعرفه القاصي والداني ، أن حافظ الأسد قد وصل إلى السلطة عام 1970 عن طريق انقلاب عسكري على رفاقه في حركة 23 شباط 1966 ، وعلى خصومه من أتباع التنظيم القومي ( ميشيل عفلق ) وزجهم جميعاً في سجن المزة العسكري مايقارب ربع القرن ، حيث توفي منهم ، عدد من القادة الحزبيين الكبار ( نورالدين الأتاسي ، صلاح جديد ، أحمد سويداني ، محمد رباح الطويل ، محمد عيد عشاوي ) ، سواء بصورة مباشرة ( داخل السجن )أو غير مباشرة ( بتأثير سنوات السجن الطويلة ) ، وحيث يعاني من لم يمت منهم من أنواع مختلفة من الأمراض الصعبة والمزمنة ( يوسف زعين ، محمود فياض ، مصطفى رستم ، كامل حسين ، على سبيل المثال لاالحصر) .

وإن مايعرفه القاصي والداني أيضاً أن بشار الأسد قد وصل إلى السلطة عام 2000 بوصفه وريثاً لوالده حافظ في حكم سورية ، الأمر الذي تحولت معه سورية 1946 من جمهورية نيابية ، إلى نوع من النظام الهجين الذي يجمع في داخله ، بصورة كاريكاتورية مضحكة ، بين الملكية والجمهورية ( جملكية !! ) .

إن هذا يعني من الوجهتين النظرية والعملية ، أن نظام عائلة الأسد : 1) نظام غير شرعي ، 2) نظام

عسكري ديكتاتوري قمعي ،3) وصل إلى الحكم عن طريق القوة ، 4) وهومستمر منذ أربعة عقود بواسطة القوة ، 5) وايضاً بواسطة التحالف مع إسرائيل وحماتها 6) وأيضاً بواسطة الخداع والكذب ، 7) وأنه بالتالي لن يتغير إلاّ بالقوة .

6. ويتعلق الأمرـ من وجهة نظرنا ـ بأطروحة إجتماعية ـ سياسية ، لها طابع القانون السوسيولوجي،

مفادها أنه : " يمكن للأقلية أن تلعب دوراً إيجابياً عندما تكون جزءاً من المعارضة لنظام قمعي وغير شرعي ، ولكنها إذا ماوصلت إلى السلطة بطريقة غير شرعية ( عن طريق القوة ) و بما هي أقلية ، فلن تستطيع المحافظة على السلطة إلاّ ( بالقوة) . أي بتغييب الشعب الذي تحكمه عن الساحة السياسية ، وذلك عن طريق تغيبها للديموقراطية . الأمر الذي يعني أن صندوق الإقتراع النزيه هو ــ في هذه الحالة ــ العدو رقم واحد لهذه الأقلية الحاكمة ". تماماً كما نرى في سورية منذ 1970 وحتى اليوم .

7. وأخيراً ، وفي محاولتنا للإجابة على السؤال الأساسي لهذه المقالة ( في سورية انتفاضة أم ثورة ؟ ) ، نقول ، وبعد كل ماأوردناه أعلاه :

يتوقف نوع ودرجة ردة الفعل عادة على نوع ودرجة الفعل . ولما كان الفعل هنا ، هو قمع الأقلية للأكثرية ، قمعاً مطلقاً تاماً وشاملاً ، جرى ترتيبه وتحضيره على مدى أربعة عقود ، وهو ماكشفته وفضحته أحداث السنتين الأخيرتين في سورية ، كما سبق أن ذكرنا في الفقرة الثانية أعلاه . وبما أن شدة

 الضغط تولد الإنفجار ، فقد انفجرت الأكثرية الشعبية المقموعة والمضغوطة ، في وجه حكم عائلة الأسد في 15 ــ 18 آذار 2011 ، وتحت شعارات لاتخطئها الأذن ولا العين ، بل لايخطئها لا العقل ولا القلب أيضاً ، ألا وهي :

Ø    اللاءات الأربع : لا للطائفية ، لا للعنف في المظاهرات السلمية ، لا للتدخل العسكري الخارجي ، لا لتغيير مهمة الجيش السوري من محاربة العدو إلى محاربة الشعب .

Ø    النعمات الأربع: نعم لإسقاط النظام واستبداله بنظام مدني ديموقراطي لحمته الدستور الموضوع من قبل ممثلين شرعيين للشعب ، وسداه صندوق الاقتراع النزيه والشفاف . نعم لوحدة الشعب السوري ، نعم لدعم وتسليح الجيش الحرعلى طريق التعجيل بإسقاط النظام وحقن دماء المواطنين. نعم للعدالة والمسواة بين كل مكونات الشعب السياسية والاجتماعية والإثنية والدينية .

وهي شعارات تقع جميعها تحت سقف " الحرية والكرامة " الذي رفعه شباب وشابات درعا يوم 18.آذار 2011 ، ( حيث سقط برصاص النظام باكورة شهداء الثورة ) والذي بات لاحقاً شعار الشعب السوري في كافة المحافظات ، ولاسيما بعد أن رفض النظام تلبية المطالب المشروعة للشعب .

وللقارئ الكريم بعد كل هذا ، أن يسمي ردة فعل الشعب السوري ، على فعل طغاة عائلة الأسد وشركاهم مايشاء من الأسماء . ( تعددت الأسماء والموت واحد !! ) . أما من جهتنا ، فإننا نرى أن ماجرى ويجري في سورية منذ حوالي السنتين ، قد بدأ كانتفاضة ولكنه انتهى كثورة . ( انتهى )