عظماءٌ سكنوا جبلة

أيهم نور الدين

خيرهم وسيدهم وأفضلهم قاطبةً خالد بن زيد بن كليب النجاري ثم الخزرجي الشهير بأبي  أيوب الأنصاري صاحب رسول الله وأحد أخير الناس بعده , فقد أجمعت الأمة على أن خير الناس بعد رسول الله أصحاب بدر وهو منهم :

خصه صلوات الله عليه بالنزول في بيته إثر الهجرة المباركة , فأقام عنده حتى  بنى مسجده وحجرته , شهد بدراً وما تلاها وما غاب عن مشهد مع رسول الله قط

عندما افتتح عبادة بن الصامت جبلة عام 17 هجرية , كان معاوية بن أبي سفيان قد أصبح أمير الشام .. نظرة معاوية الثاقبة جعلته يدعم الحصن القديم للروم هناك ويشحنه بالرجال كخط ثان داعم للطليعة التي تابعت الفتوحات باتجاه الشمال والشمال الشرقي .

بنى معاوية دار الأمارة الملاصقة للحصن القديم في المنطقة الواقعة جنوب القلعة " عند البازار القديم ومدرسة عز الدين القسام " فكانت سكناً لعبادة بن الصامت وباقي أمراء الجيش من الصحابة ..

تابع بن الصامت فتوحاته وبقى في جبلة العديد من المرابطين ومنهم الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي لم يغب قط عن مشهد مع " صلوات الله عليه " بما فيها بدر .

ألحق بالبناء مسجد المصر , وكان موقعه محل بناء البلدية الحالي ويمتد لغاية محل أبي ديب فندو , وليسأل السيد أبو ديب فندو عن معالم أساسات المحراب التي وجدوها عندما قام بتدعيم عمارته .

كانت مطابخ دار الأمارة ومربض خيولها في باحة مدرسة عز الدين , في ذلك المكان المتهالك الذي درست فيه الأجيال التي قبلنا وأطلقت عليه اسم المدينة .

" كان أخي أحمد الذي درس الصف الأول هناك يحدثني عن العملات الفضية والنحاسية التي كانوا يجدونها ويبيعونها لجبرائيل صاحب الخمارة المقابلة للقلعة والذي  كان يدفع بكل قطعة ربع ليرة بالتمام والكمال , أيام كان النص فرنك حلماً للأولاد " .

مرت الأيام وأصبح معاوية خليفة , لم تتوقف الفتوحات في ذلك العصر الذهبي للدولة الإسلامية , وأصبحت الصائفة ( فتوحات الصيف ) تقليداً إسلامياً بامتياز .

وفي صائفة عام 52 هجرية شد يزيد بن معاوية بالناس لغزو القسطنطينية , وأرسل إلى أبي أيوب بجبلة , أن يغزو معه استبشاراً  برأيه وتبركاً به , فأتاه في بيلان , وهو الذي أدمن الجهاد فلم يغب عن صائفةٍ إلا مرةً طيلة حياته .

حاصرت جيوش المسلمين القسطنطينية المنيعة , وتكالب الروم حتى حل الخريف ببرده إيذاناً بالشتاء  , حينها مرض أبو أيوب مرض الموت , ولما عاده يزيد وسأله عن وصيته أجاب : أحب أن تغزو بي حتى تصل إلى أقصى مكان في بلاد العدو وتدفنني فيه وإن لم تقدر فارمني وارجع .. وهذا ما كان .

كانت جيوش المسلمين قد استبسلت وهى تقاتل حاملة نعش أبي أيوب , وتكالب الروم وحمى الوطيس حتى وصل المسلمون بالنعش إلى جدار المدينة .

حاربت منهم فئة وحفرت أخرى وصلت صلاة الميت ثالثة ودفنوه وعادوا .

صرخ ريسيموس عظيم الروم بالمسلمين :

والله إن لكم اليوم لشأناً فما هو , وما قصة هذا القبر .

رد يزيد من بين الجيوش : هذا صاحب نبينا وأخير الناس بعده أوصى أن ندفنه هنا .

فرد ريسموس :

ما رأيت أحمق منكم أيها المسلمون , غداً سترجعون وسننبش القبر ونمثل بالجثة ونحشوها تبناً ونحرقها.

فأجاب يزيد : كنت سأرسل لك بشأنه , وها أنت تسمع , لا يبلغنني أن هذا القبر نبش ويبقى لكم ناقوس يدق في بلاد المسلمين ما دامت لنا دولة .

والله لن تبقى كنيسة ولا بيعة ولا نصراني في بلادنا الا وأعملت السيف به .

فرد ريسيموس : خفف عنك أيها الرجل , فو الله لن يجد هذا القبر منا إلا ما تحبون .

غادر يزيد وبقى جثمان أبي أيوب في قبره , يتعاهده المسيحيون بالشموع والبخور .. ومرت الأيام ونسى الناس هناك من هو أبو أيوب , فبنوا عليه قبة عظيمة وأخذوا يتعاهدونها بالنذور ويستسقون بها تبركاً ظناً منهم أنه قبر أحد حواريي السيد المسيح .

ومرت الأيام كذلك ولم تنته قصة القبر .

ففي عام 1453 ميلادية فتح السلطان المؤمن المجاهد محمد الفاتح ابن السلطان مراد الثاني , سابع سلاطين بني عثمان القسطنطينية محققاً بعد قرابة ثمانمائة عام بشرى رسول الله يوم الخندق : لتفتحنَّ القسطنطينية ، فلنِعمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعمَ الجيشُ ذلك الجيش .

كانت الأجفار القديمة ( وثائق مكتوبة على جلد الماعز ) التي عجت بها دار السلطان مراد في أدرنه تحوي الكثير من دقائق محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية عبر التاريخ , ومن ضمنها جفر عن قصة دفن رضوان الله عليه أبي أيوب .

شعر السلطان أن واجبه الأخلاقي يحتم عليه الوفاء لهذا الصحابي الجليل المجاهد , فتمت مقارنة معلومات الجفر بالواقع  واستحضر عجائز القسطنطينية , فتطابقت الروايات على موقع القبر .

وسع السلطان القبة وبنى على حائطها الجنوبي مسجداً عظيماً يشار له بالبنان .

..

مسجد أبي أيوب الأنصاري اليوم أحد أبرز معالم اسطنبول , وما تزال الصلوات الخمس تقام فيه منذ العام 1453 ميلادية حتى الآن  .