إنَّ ربَّكَ لبالمرصاد

لن يفلتَ أحدٌ  من قبضة الديَّان جلَّ وعلا ، ولسوف يُجازى كلُّ إنسان بما كسبت يداه ، إن عاجلا أو آجلا ، والله سبحانه يمهل أهل الذنوب لحكمةٍ لايعلمُها الخَلقُ ، ولو عاجلهم العقوبة لَما عاش أهل الكفر والظلم والكبائر على ظهر هذه المعمورة . قال تعالى : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) 45/فاطر . وربما يُخيَّل لبعض الناس أن بعض الظالمين يسلمون من انتقام الله في الدنيا ، وهذا ليس بصحيح ، فالظالم ينتقم الله منه في الدنيا أمام الخلق ، وربما ينتقم منه بما لايعلمه الناس ، وموعده مع العذاب آتٍ لامحاله ، يقول الله عزَّ وجلَّ : ( يوم هم بارزون لا يخفي علي الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار*  اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب * وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدي الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع*  16/17/18/ غافر . إن أهل المنكرات والفواحش الموبقات والدعاة إلى الفجور والسفور ، وأهل الضلالات والأفكار المستورة من كفر وإلحاد وفساد ... كلهم في قبضة المولى تبارك وتعالى ، لأنهم يخالفون ما أمر الله ، ويُغضبونه سبحانه بمعاصيهم ، ولقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه أبو نعيم في الحلية : ( إذا أُطعتُ رضيتُ ، وإذا رضيتُ باركتُ ، وليس لبركتي نهاية . وإذا عُصيتُ غضبتُ ، وإذا غضبتُ لَعَنْتُ ، ولعنتي تبلغ السابعَ من الولد ) .

إنَّ ربَّك لبالمرصاد ، ولا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ، ولا مفر لأهل الأرض من الحساب ، فإما إلى ثوابٍ ، وإما إلى عقاب ، فالطغاة والظالمون وأعوانهم من المنافقين والمداهنين ــ وهم اليوم من أكبر شرائح الناس الذين ركنوا إلى الدنيا  ــ يستدرجهم ربُّ العالمين ويُملي لهم ، لحين موعدهم ، ذكر ابن كثير في تفسيره عند قول الله تعالى ( فلما نسوا ماذُكِّروا به ... ) قوله عن قتاده : ( وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ) . يقول الله عزَّ وجلَّ : (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)43/44 / الأنعام . فَقَدَرُ الله ماضٍ في عباده ... أولئك الذين جاءتهم المواعظ ولم ينتهوا عن مخالفاتهم لأوامر الله ، وعاشوا يحاربون دينه ، ويستهزئون بأتباعه ، وخصوصا أهل الظلم بكل أنواعه وأبوابه ... روي الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالي أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم علي نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظلموا ) ، ويقول سبحانه : ( ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) 29/ق  ، فشريحة الطغاة الظالمين إن كانوا في قِمَّة هرم الظلم أو في قاعدته  لهم أشدُّ العذاب في الدنيا والآخرة ، يقول الله تبارك وتعالى :  (إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) 29/  الكهف )  ، أولئك الذين قتلوا الناس وعذَّبوهم وهدَّموا عليهم ديارهم ، وساموهم سوء العذاب والتنكيل ، فإن الله يراهم وليس بغافل عن إجرامهم واستهتارهم بكل القيم الإنسانية ، يقول الله عزَّ وجلَّ : (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون * إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هــواء ) 42/43/إبراهيم . ويطول الحديث عن الطغاة الظالمين من أهل الأرض في ماضي الخلق وحاضرهم ، وعمَّا جرى لهم من قصص ، وما كتبت الأيام عنهم من أخبار ، ليتعظ مَن يأتي بعدهم ويعتبر ، وهذا المآل المخزي والمحزن قديم قِدم وجود الإنسان على هذه الأرض ، ولم يكن جبروت الطغاة الظالمين في مجتمع من المجتمعات إلا وهدم أسوار السعادة الحصينة ، وأباح لنفسه ماليس كلَّ أسباب الفساد والخراب ، ومن هنا يعيش المجتمع وهو يفقد معنى الحياة الحقيقي ، ويفقد أيضا أهليته للتقدم في حياة فاضلة، لأن هذا الظالم المتجبر جافى القيم الربانية ، وهجر ماعليه من  الواجبات ، وهدر ما للناس من الحقوق  ، وهذه من عوامل  تراجع خطوات السعي إلى إعمار الأرض .

والحديث عن الظلم والظالمين ذو شجون ، تحمله الآهات مع وطأة الآلام وثِقل الرزايا التي يجلبها الظالم على الناس ، ومن رحمة الله بهم أنه سبحانه حذَّرهم من الوقوف مع الظالم في بغيه وظلمه ، ونهاهم عن معاونته ، يقول الله تعالى : (  ولا تركنوا إلي الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) 113 / هود ، لأن الظالم مُجازى على ظلمه وبغيه لامحالة ، مهما ركبه العناد والاستكبار  ، ولن يفوز مساعدوه وعبيدُه إلا بالتباب والخسران ، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه  : (  إن الله ليملي الظالم فإذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ : ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القري وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) رواه البخاري ومسلم . فالسكوت على ظلم الظالمين دليل على الهوان ، وعلى ضعف الإيمان كما نرى في زماننا هذا من كثرة الظالمين وسكوت الناس على مايقترفون من المخازي والإجرام إلا مَن رحم الله من أهل العزة الإيمانية ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه ) رواه   أبو داود والنسائي والترمذي . أما أنتم ــ أيها المظلومون ــ فإن الله أكرمكم وحفظ لكم حقوقكم في الدنيا وفي الآخرة ، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبارك الله لكم مثواكم يوم الفصل في النعيم المقيم ، مع انتقام الله ممَّن ظلمكم وآذاكم ، فَلْيَقْوَ إيمانُكم بالله ، ولْتصدق عزائمُكم وأنتم تناجزون الطاغوت والطغيان ، وتوقدون جذوة الثقة بنصر الله عزَّ وجلَّ في الصدور ، وستنالون مبتغاكم في حين تضيءُ مصابيحُكم ظلمات هذه العهود البائسة . إنَّ الله فتح أبواب السماء لدعائكم ، فلم يجعل بينها وبينه حجاب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن  رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )  متفق عليه ، فدعاؤُكم لايرد ، ونصرة الله إليكم قادمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، تُحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب  عز وجل: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ) رواه أحمد في مسنده ، وقد جاء في وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن : (اتق دعوة المظلوم ، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ) رواه البخاري و مسلم. إنَّ ظلم هؤلاء العتاة البغاة ظلماتٌ يوم القيامة عليهم وعلى مَن أيَّدهم  ، وإن الله حرَّم الظلم على نفسه سبحانه كما جاء في الحديث القدسي : (يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) رواه مسلم ، وما أهلك الله قوما إلا بعد أن بيَّن لهم سبل الهدى والرشاد ، وأرسل إليهم الأنبياء ، وأنزل الآيات البينات ، وصدق الله القائل : (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) 59/ القصص: فلا خوف من هؤلاء الظالمين العتاة أجناد الشيطان ، لأن الله لهم بالمرصاد ، ولن بفلتوا من قبضته و غضبه وانتقامه ، يقول تعالى : (وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون) 227 /الشعراء  ، فلا تبتئسوا ــ أيها المظلومون ــ ولا تأكلنَّكم الآهات والحسرات والمرارات ، فأنتم في ظلِّ الله تبارك وتعالى ، ولظالميكم يوم تشيب من هوله الولدان : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) 24/الزمر ، جاء في المواعظ أنه دخل طاووس اليماني على هشام بن عبد الملك فقال له:  اتقِ الله يوم الأذان، قال هشام: وما يوم الأذان؟ قال: يقول الله تعالى: ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ،  فصعق هشام. فقال طاووس: هذا ذل ذا الصِّفة فكيف بذُلِّ المعاينة ، ولن تدوم لظالم سلطته ولا جبروته ولا عُتوُّه ، ولسوف يندم يوم لاتنفع الندامة : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) 27/ الفرقان ، فالويل والثبور للظالم وهو يستهر بحياة المسلمين رجالهم ونسائهم وأطفالهم ، بل إن الله لينتقم للمظلوم حتى وإن كان فاجرا ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسوا الله صلى الله عليه وسلم : )دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه ) ، وبعدل الله يُقتصُّ من الظالم في يوم العدل ، يوم الخلود : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) 17 / غافر . ويقول الله تعالى : ( إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) 40/ الشورى ، وفي آية أخرى : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) ، ونختم هذه الرسالة بقول الله تعالى : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ) 42 / الشورى .

وسوم: العدد 846