محنة المفكر في الحضارة الغربية

محنة المفكر في الحضارة الغربية

أ.د مولود عويمر*

كلما ذكرت محنة المفكر اتجهت الأنظار إلى المثقف العربي والمسلم، ففي نظر الكثير هو الوحيد الذي تعرض للمضايقات والإهانة والتهميش، ويعيش في محنة دائمة، بينما ينعم غيره من المثقفين والعلماء بالراحة والحرية والتقدير والرفاهية. ولا شك أن جانبا كبيرا من هذه الرؤية صحيح، ولكن فيها أيضا مبالغة.

لا يستطيع أحد من المهتمين بالعالم الإسلامي المعاصر أن يجهل مئات من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين الذين تعرضوا في حياتهم لكل أنواع الاضطهاد كالاعتقال أو النفي أو الإعدام أو الاغتيال بسبب آرائهم الجريئة وأفكارهم الحرة ومواقفهم المستقلة أمثال عبد الرحمان الكواكبي، سيد قطب، العربي التبسي، محمد الأمين العمودي، علي شريعتي...الخ.

ولا يقدر كذلك كل مهتم بالحضارة الغربية الحديثة أن يغفل عن سجلها الحافل باضطهاد العلماء والمفكرين في كل أنحاء أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وسأحاول في هذا المقال أن أقدم للقارئ بعض نماذج من محنة المفكر الغربي بشكل مختصر.

الكنيسـة تحـرق العلمـاء

تصدت الكنيسة لكل عقل حر، وسلطت عقوبتها على العلماء والمفكرين الأحرار الذين تجرؤوا على تأويل الكتاب المقدس تأويلا لا ينسجم مع الرؤية الكنسية، أو الذين اكتشفوا ظاهرة طبيعية أو فلكية وفسروها تفسيرا يختلف مع ما جاء في الكتاب المقدس المحرف.

ولم تقتصر جهود الكنيسة على مصادرة الكتب ومنع تداول النظريات العلمية الجديدة لأن ذلك غير كاف وحده لصد العقول الحرة والمبدعة عن مواصلة اجتهاداتها واختراعاتها واكتشافاتها، خاصة وهي تدرك أن عجلة النهضة في أوروبا سائرة في طريق لا رجعة فيه، لذلك أقامت الكنيسة محرقة لإحراق الكتب وأصحابها، وكان من أشهر هؤلاء سافنو رولا (1452-1498) الذي أعدم حرقا في فلورنسا سنة 1498 بسبب نقده اللاذع لرجال الدين وأهل الحكم المتورطين في الفساد والرذيلة ونشر الجهل والدين المغشوش.

وأذكر أيضا هنا ضحية أخرى وهو الفيلسوف المجدد جيوردانو برونو (1548-1600) الذي أحرق في يوم 17 فبراير 1600 في ساحة روما بعد أن قضى 8 سنوات في السجن، وهو مصر على آرائه وأفكاره التجديدية التي تتنافى مع طروحات الكنيسة في الدين والعلم.

وهكذا، بقي جيوردانو برونو مثالا للعالم الصامد والمفكر الجريء، وشاهدا على ضعف العاجزين ومكر الجامدين وبطش المتطرفين. انتشرت مؤلفاته في أوروبا في القرن العشرين بعد أن منعت لفترة طويلة، وترجمت إلى عدة لغات. وقد صدرت أعماله الكاملة في 9 مجلدات في طبعتها الفرنسية بين عامي 1993 و 2008.

وتعرض العالم الفلكي غاليليو (1564-1642) لكل أنواع المضايقات، وأجبر على أن يعترف علانية بخطأ أفكاره ونظرياته رغم صوابها حتى يجنب نفسه عقوبة الإعدام، غير أن ذلك لم يشفع له عند رجال الكنيسة المتطرفين، حيث أصدروا ضده قرارا بالإقامة الجبرية في عام 1633 ، فعاش وحيدا ومات غريبا، وصنفت مؤلفاته في "فهرس الكتب المحرمة" التي تمنع دراستها وتداولها. ولم تعد له الكنيسة الكاثوليكية الاعتبار إلا في عام 1992، أي بعد ثلاثة قرون ونصف من محاكمته، وصححت الخطأ الذي وقع في حقه.

وبتنفيذ قرارات نفي العلماء والمفكرين أو إعدامهم حرقا أرادت الكنيسة أن تمنع حركة النهضة والتنوير في أوروبا، و محاصرة التأثير الحضاري الإسلامي الناشئ في صقلية أو القادم من الأندلس. ولا شك أن حركة النهضة الأوروبية استفادت من ذلك التأثير وإن كانت المصادر الأوروبية ساكتة عنها كعادتها عندما يتعلق الأمر بالتأثيرات الحضارية الإسلامية على الغرب. 

وسار على درب الكنيسة والملوك المستبدين كل أعداء التنوير والتحرير في ملاحقة العلماء الأحرار والمفكرين المجددين من أجل أن ينتشر الجهل بين الناس، وتشيع الرذيلة في الأرض، ويسود الظلم في المجتمعات، ولو كان ذلك يتعارض مع الطبيعة البشرية والسنن الكونية !

الثورة الفرنسية تعدم أكبر علماء فرنسا

عانى العلماء والمفكرون الفرنسيون كثيرا قبل الثورة الفرنسية، وسجن العديد منهم، فهذا المفكر فولتير (1694-1778) اعتقل في سجن الباستيل الشهير ولم يطلق سراحه إلا بعد أن وافق على نفيه إلى إنجلترا. وذاك الفيلسوف جون جاك روسو 1712-1778) عاش مطاردا في أوروبا بعد أن أصدر برلمان باريس حكما بسجنه وإحراق كتابه "إميل". وقال روسو واصفا حالته التي ضاقت بها الأرض: " كان قد أثير ضدي، في كل أوروبا، صراخ لعنة هائج لم يسبق له مثيل."

ولم تتغيّر كثيرا أحوال المفكرين الأحرار في السنوات الأولى للثورة الفرنسية (1789). فخلالها أعدم أكبر عالم فرنسي في زمانه، وهو أنطوان لافوازيه أبو الكيمياء في العصر الحديث.

ولد انطوان لافوازيه في 26 أوت 1743 بمدينة باريس. درس القانون والعلوم الطبيعية في جامعة السوربون. ونشر مبكرا بحوثا في الكيمياء قادته إلى أكاديمية العلوم الملكية وهو لم يبلغ بعد 25 سنة. كما اشتغل أنطوان لافوازييه في مصلحة الضرائب وهو منصب جذب له مشاكل فيما بعد.

اعتبر حكام الثورة الفرنسية الجدد أنطوان لافوازييه مسؤولا عن الظلم الاجتماعي الذي ساد في البلد بسبب الضرائب والفساد المالي. وهكذا يجد هذا العالم نفسه متهما ظلما بالخيانة، وينفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة في يوم 8 ماي 1794 وهو في أوج عطائه العلمي.

ولم يتردد قاضي المحكمة في إصدار الحكم بالإعدام على لافوازييه رغم إلحاح هذا الأخير على الاستفادة من بعض الوقت لإكمال تجاربه العلمية. فقد قال له القاضي بكل برودة: " إن الثورة ليست في حاجة إلى العلماء !

وقامت الحكومة الفرنسية فيما بعد بنقل رفات هؤلاء العلماء والمفكرين الأحرار في احتفالات رسمية إلى مقبرة العظماء البانتيون الكائن بقلب باريس تخليدا لذكراهم، واعتراف الأمة بفضلهم ولو بعد مرور عدة سنوات على وفاتهم، بينما نسي التاريخ تماما أسماء الذين أساؤا إليهم ومكروا لهم مكرا كبارا.

السياسية تطارد العلماء

عندما وصل أدولف هتلر (1889-1945) إلى الحكم في ألمانيا في عام 1933 سن قوانين عنصرية لحرمان العلماء اليهود من التدريس في الجامعة الألمانية. واضطر الكثير منهم وغيرهم من العلماء اليهود الأوروبيين الشرقيين للهجرة إلى فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكان من أشهر هؤلاء ألبير أينشتاين (1879-1955)، وكارل بوبر (1902-1994)، ونوربير إلياس (1897-1990)، وإريك فروم (1900-1980) وحنا أروند (1906-1975) وغيرهم من مشاهير العلم والفكر.

وعندما استولى المارشال فيليب بيتان (1856-1951) على الحكم في فرنسا في عام 1940 أصدرت حكومته قوانين مماثلة دفعت العديد من العلماء الفرنسيين أو المهاجرين للهروب إلى الخارج. وسيق آلاف من المثقفين في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى المعتقلات والمحتشدات والسجون.

لقد وقع كل هذا الظلم من جانب أنظمة ديكتاتورية. بينما أصيب علماء ومفكرون أوروبيون بممارسات قمعية من طرف نظام حكم ديمقراطي. فقد تعرض على سبيل المثال الفيلسوف البريطاني بتراند رسل (1872-1970) للفصل من الجامعة والسجن في بريطانيا بسبب مواقفه السياسية التي تتعارض مع حكومته.

وعرف الفيلسوف رسل أيضا مضايقات في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب آرائه التربوية والأخلاقية الجديدة، وفصل من منصبه أستاذ كرسي الفلسفة من كلية نيويورك.

مارك بلوك آخر شهداء العلم في أوروبا

أقصد مارك بلوك و هو من أشهر المؤرخين الفرنسيين. ولد في عام 1886 في ليون بشرق فرنسا. عمل أستاذا للتاريخ في جامعة ستراسبورغ بين 1919 و1936، ثم عين أستاذا للتاريخ الاقتصادي بجامعة السوربون.

وفي عام 1929، أسس مع صديقه لوسيان فيفر مجلة " الحوليات"، وهي مازالت تصدر إلى يومنا هذا. وسرعان ما تحوّلت هذه المجلة إلى مدرسة عالمية في المعرفة التاريخية والبحث التاريخي من خلال المقاربات الاجتماعية والاقتصادية التي تبنتها منذ عددها الأول، وتواصل عدة أجيال من المؤرخين الذين قدموا إضافات جديدة في علم التاريخ.

كما طوّر مارك بلوك مفاهيم جديدة في التاريخ ومن أهمها مفهوم مهنة المؤرخ، وتعددية التخصصات إذ دعا إلى ربط التاريخ بالعلوم الاجتماعية الحديثة. كما اشتهر بخصومته مع الحدثية فكان يرفض ربط التاريخ بالحدث وإنما يفضل عقد صلته بالظاهرة الاجتماعية أو الحركة الاقتصادية.

وانضم الأستاذ بلوك إلى جبهة المقاومة لتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني. وسجل في كتابه "الهزيمة الغريبة" تأملاته في سقوط الدولة الفرنسية بشكل سريع، وبحث في الأسباب التي أدت إلى هذا الانهيار، ووصف يوميات المقاومين الفرنسيين. وقد نشر هذا الكتاب في عام 1946، فلقي رواجا كبيرا، ومازال يتمتع بشهرة واسعة.

وعاش مارك بلوك 4 سنوات مختفيا في فرنسا إلى أن كشف أمره، فأعتقل في 8 مارس 1944 من طرف الأمن الألماني (قيستابو)، وتعرض للتعذيب، ثم أعدم بالرصاص في 16 جوان 1944، ويدخل في سجل شهداء العلم، ويكون آخر المفكرين الذين اغتالتهم يد الغدر في أوروبا. وفي عام 1997، أطلق اسمه على ساحة عمومية في الحي العشرين بمدينة باريس، تخليدا لذكراه.

لقد أصبحت ظاهرة اضطهاد العلماء أو ما سميناه بمحنة المفكر نادرة اليوم في العالم الغربي بسبب انتشار الديمقراطية ورسوخ ثقافة المواطنة واحترام حقوق الإنسان، ولكنها لم تزل بعد من العالم العربي والإسلامي رغم الأحداث الأخيرة الرامية إلى التحرر والتغيير من أجل مستقبل أفضل.

               

* أستاذ التعليم العالي بجامعة الجزائر 2