دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 1-3

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

د. أبو بكر الشامي

مشروعيّة وضرورة الجهاد في سبيل الله (1)

لقد جاء الإسلام العظيم لتحرير البشرية من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد  ولقد كانت رسالته الخالدة بمثابة إعلان عام لتحرير الإنسان من تسلّط الطغاة ، وكان العرب هم رأس الحربة في هذه الثورة الكونية الهائلة ، ولقد فهم العرب دورهم القيادي في هذه الرسالة منذ اللحظة الأولى ، وأدركوا أهمية الدور المنوط بهم فيها ، ولذلك فقد منحوها ومنحوا رسولها كل ما يملكون من وقت وجهد ، واسترخصوا دونها الأنفس والأموال والأولاد والأوطان ، كما فهموا أيضاً من الصفة العالمية لهذه الرسالة الخالدة ، أن من حق البشرية أن تصلها هذه الدعوة الكريمة ، ومن حق الإنسانية أن تسعد بالعيش تحت ظلالها الوارفة ، وأن لا تقف عقبة أو سلطة أو طاغوت في وجه هذه الدعوة الشاملة ، ومن حقها كذلك أن تترك حرّة لتختار هذه العقيدة دون أي عائق ، فإذا أبى فريق من الناس أن يعتنق رسالة الإسلام بعد التوضيح والبيان فهذا شأنه ، ولكن لا يجوز له أن يصد الدعوة عن طريقها ، وعليه أن يعطي من العهود والمواثيق ما يكفل لها الحريّة والاطمئنان ، ويضمن لها المضي في طريقها بلا عدوان .

في حدود هذه المعاني والمباديء السامية كان الجهاد في سبيل الله ، لا لإكراه الآخرين على الدخول في الدين ، فلقد حسم القرآن هذه المسألة منذ البداية فقال : بسم الله الرحمن الرحيم (( لا إكراه في الدين ، قد تبيّن الرشد من الغيّ )) البقرة (256). ولكن للتخلية بينهم وبين هذه العقيدة الخالدة ، بعد تحطيم كل الحواجز ، وإزالة كل العقبات ، وتذليل كل الصعوبات التي تحول بينهم وبينها ، ثم ترك الحريّة لهم بعد ذلك (( فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر )) الكهف (29 ).

وسوف نرى في هذه الدراسة إن شاء الله ، كيف أدار الرسول القائد صلى الله عليه وسلم عملية الجهاد المباركة بأعلى درجات الكفاية والدراية والعبقرية ، فحطّم الطواغيت واقتلع الشرك من جزيرة العرب ، ثم أرسى دعائم أعظم دولة وأرقى نظام في تاريخ البشرية ، ولقد صنع في ربع قرن ، ما يعجز عنه غيره في دهور وقرون. فلما أدّى الأمانة ، وبلّغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وانتقل إلى جوار ربّه في الرفيق الأعلى ، حمل الراية خلفاؤه من بعده ، فكانوا نعم الخلف لنعم السلف ، فما أن نفضوا أيديهم من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى حزبوا أمرهم ، ولملموا شعثهم ، ورصّوا صفوفهم ، وفي مثل لمح البصر سحقوا الرّدة في جزيرة العرب ، وطاردوا فلول المرتدين ، وأعادوا توحيد جزيرتهم العربية على قاعدة الإيمان الراسخة ، ثم خرجت جحافلهم المظفّرة فانساحت شرقاً حتى وطئت بحوافر خيلها تربة الصين ، وغرباً حتى خاضت في مياه الأطلسي .!!! 

وإني والله ، لأرى بأن إرث النبوّة الخالد في الجهاد والاستشهاد ونصرة الحق ودحر الباطل ، قد وصل إليكم يا أبطال الجيش السوري الحرّ النشامى ...

وأيم الله ، إنه لشرف العمر ، ومفخرة الدهر ، أن تفوزوا أنتم بشرف تحرير أهلكم في شام العروبة والإسلام من العصابة الأسدية المجرمة التي اختطفتهم منذ أكثر من نصف قرن ، وسامتهم جميع أنواع القتل والتهجير والاعتقال والعبودية والإذلال ...

فنظّموا كتائبكم أيها الرجال الأبطال  ، ورصّوا صفوفكم ، واستعينوا بعد الله بشعبكم

وازحفوا إليهم باسم الله ، وعلى بركة الله ... وإنكم لمنتصرون بإذن الله ...

وأتشرّف وأنا أحد المحاربين السوريين القدماء أن أضع خبرتي بين أيديكم ، وأن أضيف تجربتي إلى شجاعتكم ، عسى الله أن يكتب لنا شرف المشاركة في هذه الثورة المباركة ، وشرف صناعة نصرها الأكيد بإذن الله ...

بسم الله الرحمن الرحيم :

((أُذِنَ للذين يُقَاتَلون بأنّهم ظُلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير )) الحج 39

((وكان حقّاً علينا نصرُ المؤمنين )) صدق الله العظيم .

 **********************

القيادة القدوة ( 2 )

إن من أهم الصفات التي ميّزت شخصية الرسول العظيم ، صلى الله عليه وسلم : هي كفاءته القيادية والجهاديّة والدعويّة ، فلقد كان يتمتّع بكل الصفات المثاليّة للقائد المجاهد ، والداعية الناجح ، من إيمان عميق ، وعقيدة راسخة ، وعقليّة مبدعة ، وتفكير ستراتيجي ، وتخطيط ، وإرادة ، وشجاعة ، وصبر ، وتحمّل للمسؤولية ..الخ…

ولقد توفرت له هذه الصفات الكريمة عن طريقين رئيسيين :

الاصطفاء الرباني : فلقد كانت شخصيته صلى الله عليه وسلم القيادية والجهادية والدعويّة ، تُصنع على عين الله منذ أن كان جنيناً في رحم أمه ، إلى اللحظة التي شرّفه الله بها بالتكليف والوحي ، ثم رافقته العناية الإلهية في كل مرحلة من مراحل دعوته خطوة فخطوة ، حتى التحق بالرفيق الأعلى .

ولعل من مظاهر هذا الاصطفاء أنه كان ذا ماضٍ مشرِّف ، فهو من أوسط قريش نسباً ، وأعظمهم أمانة ، وأحسنهم أخلاقاً . ولقد حفظه الله من أدران الجاهلية ، وتميز ماضيه القريب والبعيد بالنظافة والطهر ، حتى إن أحداً من قريش لم يستطع – حتى في ذروة عدائهم له – أن يعيب له قولاً أو عملاً صلى الله عليه وسلم .

بل على العكس تماماً فلقد كان موضع إعجاب وتقدير الأصدقاء والأعداء معاً .!

فمن شهادات الأصدقاء ، شهادة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، التي كانت معروفة في قريش برجاحة عقلها ، وكريم صفاتها ، فها هي تقبله زوجاً لها ، وتعرض عليه ذلك ، واضعةً بين يديه كل ما تملك من شرف وحسب وجمال وأموال  وما ذلك إلا لإعجابها به ، وتقديرها له .

وعندما جاءها يرتجف من مفاجأة الوحي ، قالت له قولتها الخالدة : ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكَلَّ ، وتُكسبُ المعدومَ ، وتُقري الضيفَ ، وتُعينُ على نوائب الحق).

وأما شهادات الأعداء على كريم أخلاقه ، وطهر سيرته صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة أيضاً ، وسنكتفي كذلك بأبرز نماذجها ، فهذا عتبة بن ربيعة ، وهو من أساطين الشرك في مكة ، يصفه في مفاوضاته معه بأنه ( من أعزهم شرفاً ، وأوسطهم نسباً). هشام1 (293)

وهذه شهادة النضر بن الحارث ، زعيم الامبراطورية الإعلامية المعادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وجزيرة العرب كلها ، وهو من ألدّ  أعداء الإسلام ، وأكثرهم أذى لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  ها هو يخاطب قومه  : ( يا معشر قريش ،  إنه والله قد نزل بمكة أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً ، أرضاكم فيكم ، و أصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر ، فلا والله ما هو بساحر )) . هشام1 (300 )

ولعل أروع شهادة في التاريخ ، وأعظمها دلالة على ما نتكلم عنه من صفاته وخصائصه صلى الله عليه وسلم ، هي ( شهادة الأمانات) التي كانت عنده لأهل مكة.  فلم يكن أحد بمكة قبل بعثته ولا بعدها ، عنده شيء يخشى عليه ، إلا وضعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما يعلم من صدقه وأمانته .!

والطريق الثاني لصفاته الكريمة صلى الله عليه وسلم : هو طريق الاجتهاد الشخصي ، وهو يعتمد على المهارات الشخصية ، والاجتهادات الفردية ، والارتقاء الذاتي ..

فلقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبالرغم من كل ما حباه الله من الصفات الجليلة ، والخلال الحميدة ، يهيء نفسه للوحي والدعوة والقيادة والجهاد ، ويـبذل كل ما يستطيع من جهد للارتقاء بشخصه الكريم إلى المقامات اللائقة بتشريف الله له وتكريمه ، وذلك بالعزلة ، والخلوة ، والتفكّر ، والعبادة ، والذكر،  والدعاء ، وقراءة القرآن ، وغيرها من أساليب الترقي ، هذا في الجانب النظري ..

وكذلك ، بالحضور المتميّز ، والمتابعة المستمرّة ، والقدوة المتألقة ، والمنهج الشوري الراشد ، في الجانب العملي .. وبمجمل هذه الصفات ، الموروثة و المكتسبة ، استطاع هذا الرسول العظيم ، أن يقود دعوته المباركة ، بأعلى درجات الكفاءة والنجاح .. ولقد حقق مع أصحابه وآل بيته رضوان الله عليهم ، في ربع قرن ، ما يعجز الآخرون عن تحقيقه في دهور وقرون قرون ، فصلى الله عليه وسلم  وجزاه الله عن أمته خير ما يجازي نبيّ عن أمته ..

ورزقنا الله الاقتداء به ، والتخلّق بأخلاقه ، والسير على نهجه ، والجهاد والاستشهاد لتحرير الشام المباركة بإذن الله  

***************

وضع الخطة الجهادية المحكمة ، وتهيئة الظروف المناسبة للنصر( 3 )

قلنا بأن من أهم صفات الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، كفاءته القيادية والجهادية والدعوية المبدعة . فلقد كان يقود دعوته المباركة سواء في المرحلة المكيّة أو المدنيّة ، بأعلى درجات الكفاءة والنجاح ، ويعطي لكل مرحلة من مراحل جهاده المبارك ، من الوسائل والأساليب والخطط ، ما يكافئ مقتضياتها وحاجاتها الواقعية ، في مرونة عالية ، وخصوبة ذهن متدفّقة ، فهو لم يكن ليقابل الواقع الأليم الذي كان يمرّ به أصحابه بنظريات مجرّدة ، كما أنه لم يكن ليقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة .

فمثلاً ، في الوقت الذي كان يمنع المسلمينَ – في مرحلة الإعداد المكيّة - من حشر الجهاد في غير ظرفه ، وغير مرحلته ، منعاً لإراقة الدماء ، وإضاعة الجهود والأعمار من غير طائل ، والذي قد يقود الأمة إلى اليأس والإحباط .

فإنه كذلك لم يكن ليعطل هذا الركن العظيم عن أداء دوره في تحطيم الطواغيت ، وإزالة العقبات من طريق الدعوة ، عندما يتغير الظرف ، ويكون ذلك ضرورياً وممكناً  ، لا لإكراه الناس وقهرهم على اعتناق عقيدته ، كما ذكرنا ، فالإسلام يحرّم الإكراه ، حتى لو كان  لنقل الناس من الكفر إلى الإيمان ،  ومن الظلمات إلى النور ، قال تعالى في محكم تنزيله : (( لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي )) . البقرة (256)

ولكن للتخلية بينهم وبين هذه العقيدة ، بعد تحطيم كل الأنظمة ، وإزالة كل العقبات التي تحول بينهم وبينها ، ثم ترك الحرية المطلقة لهم بعد ذلك (( فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر )) الكهف(29).

وهكذا فقد كانت خطة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، في مرحلة الاستضعاف المكية ، ترتكز على الدعوة ، المصحوبة بالصبر ، واحتمال الأذى ، وكف الأيدي ، وعدم المواجهة المسلحة .

فلما تغير الظرف ، وتغيرت المرحلة ، وحدثت الهجرة ، أطلق الرسول القائد صلى الله عليه وسلم عملية الجهاد ، بعد أن كان قد أعدَّ لها كامل متطلبات نجاحها ، وهيأ لها كافة أسباب الفوز والظفر فيها ...!!!

واليوم ، وشعبنا السوري العظيم يتعرّض لأقذر حرب إبادة عرفها التاريخ منذ ما يزيد على عشرة أشهر ، على أيدي العصابات الأسدية المجرمة وشبّيحته الكافرة الفاجرة ، وبعد فشل جهود الجامعة العربية ، وتقاعس المجتمع الدولي عن أداء دوره في وقف المذبحة واستنقاذ البقيّة الباقية من الشعب السوري المظلوم ..

كان لا بد من أن ينتخي أبناء سورية الغيارى من قواتنا المسلحة الباسلة ، والذين صاروا يُعرفون اليوم ب( الجيش السوري الحرّ ) الذين أقسموا الأيمان المغلّظة على حماية الشعب والوطن من أي عدوان داخلي أو خارجي ...

وحماية الشعب والوطن من عصابة أسديّة حاقدة متمرّسة على الحقد والقتل والإجرام ، يستوجب من كل الشرفاء والمخلصين من أبناء الجيش السوري الحرّ الأبطال ، ومن ساندهم وناصرهم وتعاون معهم من أبناء الشعب الغيارى ، وخاصة من العسكريين المتقاعدين ، والمحاربين القدامى ، أن يتداعوا لوضع خطة عسكرية محكمة لسحق العصابة الأسدية في أسرع وقت ، وتحرير شعبنا السوري العظيم من ظلمها وغدرها وحقدها ...

خطة ترتكز في روحها وجوهرها على ستراتيجية ( حرب القلّة المؤمنة ، ضدّ الكثرة الكافرة ) التي مارسها العرب المسلمون في جميع معاركهم الحربية المظفّرة أو ما بات يعرف في العصر الحديث ( بحرب العصابات ) .

والتي تتلخص ب :

توجيه ضربات قوية وسريعة ومتلاحقة للعدو حتى يدوخ ويبدأ يترنّح

ثم استجماع كامل القوة وتوجيه ضربة قاضية لعدوّ مترنح ...