إجازة بلا سفر

علي الجحلي

زرت سورية الشقيقة عام 1417هـ، أصدقكم أنني استغربت انتشار الجيش في الشوارع

بعد العشاء كل يوم، رأيت في زيارتي تلك أموراً كثيرة استغربت معها صبر الشعب

على ذلك النظام الجائر، رجال البعث كانوا يخيفون كل الناس، فترى الموظف البسيط

يهدد رئيس الدائرة، وترى أشخاصاً يحصلون على كل شيء دون مقابل، رأيت سيارات

المخابرات تخترق الشوارع وتفتح لها الطرق دون أن يكون هناك ما يدل على هوية من

بداخلها أو سلوكهم، سوى نوع السيارة أو رقم لوحتها، رأيت قائد كلية الحرب يرتجف

من الخوف عندما علم أن السيارة التي عنَّف من سمح لها بالوقوف في مدخل القيادة

تخص ماهر الأسد، كنت أعجب من صبر ذلك الشعب الذي له من التاريخ كل الفخر والعزة

منذ عصور ما قبل الإسلام، لكنه الخوف الذي يجب أن تخاف أن يسيطر عليك كما قال

روزفلت.

خرج الشعب رافضاً الذل والمهانة، حارب الجميع من أجل حريتهم وكرامتهم، فجابههم

النظام بالإرهاب كالعادة: بث الرعب، وقتل الأحياء، والاعتداء على النساء

والأطفال. لكن الخوف زال، وخرج المارد من قمقمه، ولا عودة بعد اليوم للذل

والقهر والإهانات، لقد تدرج قمع النظام إلى أن وصل درجة لم تسجل في التاريخ،

فكلما زاد الضغط على النظام زادت انتصارات الشعب، جن جنون الطغمة الحاكمة،

واستخدموا المزيد من السلاح المحرم وغير المحرم دولياً، وأمعنوا في القتل.

لم أر أو أسمع أو أقرأ في حياتي مثل ما رأيت في المقطع الذي انتشر الأسبوع

الماضي عن ''شبيحة'' وجدوا أحد أبناء الشعب الأحرار وحده فقرروا أن يعاملوه بما

لا يمكن تخيله من القسوة والجبروت والظلم، قام هؤلاء بضرب الرجل بأنابيب

الحديد، ثم بالمواسير، وبعدها جاء أحد هؤلاء ''الكلاب'' ليرفع ''بلوكة

خرسانية'' وزنها لا يقل عن عشرة كيلو جرامات فوق رأسه ويرميها على رأس الرجل

المسكين وهو يتأوه ويتلوى من الألم، فيعود ليفعلها مرة أخرى، وثالثة، ورابعة..

وهكذا حتى توقف المواطن الشريف عن الحركة، ليأتي آخر فيطلق عليه رصاصتين من

سلاحه، وينهي هذا المشهد الخبيث الذي يقهر من يراه ويجعله ضد هذا النظام

''الخبيث'' إن كان له قلب أو خلق أو مروءة.

كان هؤلاء المجرمون يلعنون الرب -سبحانه- ويلعنون الرسول-صلى الله عليه وسلم-

ويتحدون أن ينقذه مما هو فيه، ويهتفون باسم رئيسهم الذي يبدو أنه هو من ينظِّر

لهذا الإجرام الذي لا يمكن وصفه، أو توقعه من أي إنسان. ما يمكن قوله هنا عن

هذا المقطع هو أنه لو لم يكن للشعب السوري من دافع للخروج من هذا الذل، إلا هذا

فهو يكفيهم ليعلموا ما ينتظرهم لو بقي هذا النظام يحكم البلد.

يأتي بعد ذلك بيوم سقوط الخيام فوق رؤوس ساكنيها من اللاجئين السوريين في تركيا

والأردن ولبنان، نساء يندبن وأطفال يبكون، وبرد قارس ومطر يدخل الخيام ليفسد كل

شيء، يأتي تقرير الأمم المتحدة الذي يتحدث عن أربعة ملايين من السوريين ممن هم

في حاجة إلى الطعام والسكن ووصول مليونين ونصف المليون درجة الفقر الذي لا

يستطيعون معه تدبير قوت يومهم.

هذا ما يريده النظام، لقد بدأ بمنع الوقود والكهرباء والمياه واليوم يمنع

الطعام، فكيف بربكم يتوقع أحد أن يتقبل الناس من فعل هذا بهم من أجل كرسي، أو

يرضوا بأن يعيش ساعة واحدة في هناء. لقد تجاوز هذا النظام مرحلة العودة، ومهما

فعل اليوم ومهما حاول حلفاؤه فهو في النزع الأخير، بإذن الله.

إن ما يعانيه الشعب السوري، خصوصاً اللاجئين اليوم من الفقر والقهر والجوع

والبرد، هو امتحان لهم، وهو مصداق قوله تعالى ''أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ

تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ

قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى

يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا

إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ'' (214). وهو اختبار لنا نحن المسلمين والعرب،

فما نحن صانعون؟

يجب أن تبدأ حملة شاملة يسهم فيها الجميع لتقديم العون للاجئين الذين أصابتهم

البأساء والضراء. يجب أن نبدأ حملة شعبية للتبرع يسهم فيها الجميع، وتديرها

المجالس البلدية ومنظمات المجتمع المدني لتوفير بطانيات الشتاء وكرافانات لسكن

هؤلاء، وتوفير الغذاء والدواء لهم، فهم والله في حاجة ماسة، وليس من خُلق

المسلم أن يشاهد إنساناً يعاني بهذا الشكل ويقف ليشاهده، فكيف بأخيه المسلم

الذي يشهد ''أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله''.

بدأت إجازة منتصف العام الدراسي، ويخطط الجميع لاستغلالها، كلٌّ حسب قدرته

وإمكاناته المادية. لكن كيف لنا أن نتفسح ونسافر ونسعد ونحن نرى أولئك الأطفال

والنساء والشيوخ تحت رحمة الطقس والفقر والمرض والجوع؟ ينتظرون اللقمة ولا

يكادون يجدون الماء، بل يجلسون في خيام وسط الجليد دون تدفئة، فلا أرض تحملهم

ولا سماء تحميهم. إنني والله لأجدها على نفسي وعلى كل مسلم، وخصوصاً إخواننا

السوريين الذين يملكون الشركات والمؤسسات وينعمون بالخير الكثير سواء في الخليج

أو خارجه، لهذا أطالب الجميع بأن يبقوا في مدنهم في هذه الإجازة، ويتبرعوا بما

كانوا سينفقونه فيها للشعب المسكين الذي لا حول له ولا قوة، فما تفعلوا من خير

تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، وهو دفع للبلاء أيضاً.