أسئلة إلى الأستاذ هيكل !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات كنت أذهب إلى بائعة الصحف لتحجز لي ملحق أهرام الجمعة نظير خمسة مليمات أدفعها ظهر الخميس  وأتسلمه صباح السبت قبل بدء اليوم الدراسي . كان الملحق يضم ثماني صفحات الأولى تضم مقال " بصراحة " للأستاذ محمد حسنين هيكل وكنا نتحسس فيه ماذا سيفعل بنا الحاكم في قادم الأيام ، وفي داخل المقال صورة ذات دلالة وعليها تعليق أدبي رفيع ، ثم هناك صفحتان للسياسة الدولية تتضمنان تعليقات حول الأحداث العالمية مع التعريف بشخصية مهمة على مستوى العالم تشارك في صنع الأحداث ، بعدهما صفحتان للأدب والفن يشرف عليهما لويس عوض وفريقه اليساري باستثناء زاوية محدودة للدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله تقف فيها على الجسر ، وبقية الملحق تتناول الرياضة والمرأة .

كانت قراءتي لمقال هيكل تأتي إعادة لما سمعته من قبل في البرنامج العام للإذاعة وصوت العرب حيث كانت الإذاعتان تتلوان المقال واحدة بعد الأخرى فيما يقرب من نصف ساعة وتزيد المدة في الأيام التي تتضمن فيها المقالة وثائق أو نصوص اتفاقيات أو نحو ذلك . كان يبهرني في مقال هيكل أسلوبه وتصويره للأشخاص والأحداث والأفكار، وخاصة تشبيهاته واستعاراته وكناياته التي كانت تأتي في إطار عصري بعيد عن الموروث من المجازات الأدبية .. ثم إن ترتيبه لمقاله وتحويله إلى مقدمات ونقاط ارتكاز وتحليلات ينتهي منها إلى نتائج ، كان يمثل عملا أدبيا بامتياز يدل على موهبة وجهد واهتمام .

وقد تابعت الأستاذ هيكل في معظم ما كتبه على هيئة مقالات أو كتب باستثناء ما كتبه في مراحله الأولى ولم تصل يدي إليه ، وفي كل الأحوال فقد كنت أتفق مع بعض ما يكتبه وأختلف مع بعضه الآخر ، وقد حفظت الميثاق الذي خطه هيكل بقلمه ، وحصلت من خلال استيعابه على بعض الجوائز التي تناسب طالبا في المرحلة المتوسطة ، ولكنني عشت حالة من القلق إزاء كثير مما ورد فيه ، وخاصة حين اختزل الإسلام وتشريعاته ومعطياته فيما سماه بالقيم الروحية ، مقابل الدعاية الفضفاضة للاختراع العجيب يومها المسمى الاشتراكية العربية !

قبل سنوات كنت أعتزم زيارة الأستاذ هيكل بحثا عما سماه الأستاذ يحيى حقي - رحمه الله - في حديث أجريته معه أوائل السبعينيات بـ " الحرفة " أو ما يعبر عنه الآن مجازا بالمهنة . كنت أعد مع بعض القريبين منه لزيارة الرجل  والتعرف على طريقته في الكتابة ومهاراته التي اكتسبها وأهلته ليكتب بهذه الغزارة ، ولكن ظروفي الصحية حالت دون تنفيذ الزيارة ، ثم كان استئذانه للانصراف من العوامل التي جعلتني أنسى أمرها تماما .

ظهور هيكل في تلفزيون الجزيرة وبعض القنوات الخاصة مؤخرا ، وكتابه عن زمن مبارك ، وصدور عدد خاص من مجلة الهلال حوله يتصدره حديث طويل أجرته المجلة معه ؛ جعلني أفكر في طرح بعض الأسئلة عليه لا تتعلق هذه المرة بالحرفة ، ولكنها تتعلق بالأفكار والرؤى ، ومع أني لا أشاطره أفكاره وتصوراته وأتحفظ على علاقته بجمال عبد الناصر ؛ فإني أتمنى لو سمعت منه إجابة لا تعنيني بقدر ما تعني الوطن الذي منحه الشهرة والغنى والمنصب والجاه ، وتأثر بمقولاته إيجابا وسلبا ، خاصة وأنه يتصدى للكلام حين يرى هو أو يرى محبوه وتلاميذه أن الموقف يستدعي أن يتكلم ويدلي برأيه . 

وأول الأسئلة ما يتعلق بعلاقة مصر بالإسلام من خلال المقدمة التي كتبها محرر الهلال وجعل فيها أستاذه حكيما ومرجعا ، هل يوافق الأستاذ على ما ورد في هذه المقدمة التي ترى الحركة الإسلامية ظلاما وجحافل تزأر بالعنف والكراهية ؟ يقول المحرر " الوطن كله صار على المحك . الثقافة والفكر تحديدا في مهب الريح .. جحافل التضييق والقولبة تزأر في عنف وكراهية .. المشهد شديد القتامة والريبة .. الأمر إذا يحتاج إلى حكيم نستقطر من كلماته ( روشتة الخلاص ) .. و(نورا ) يتقدمنا إلى ذلك النفق المظلم الذي استطال بأكثر مما يجب.... وفي هذا الظرف الضاغط .. فإن الحكمة والمرجعية يتجسدان في شخص أستاذنا محمد حسنين هيكل .. " ؟

وثاني الأسئلة يأتي بمناسبة تجربة أندريه مالرو الوزير الشيوعي مع الزعيم اليميني ديجول في فرنسا وإمكانية تكرارها عندنا في ظل سيطرة ما يسمى الإسلام السياسي .. حيث يرفض هيكل إمكانية قبول تيار الإسلام السياسي وجود وزير بثقل المفكر الفرنسي اندريه مالرو ؛ لأن هذا التيار – من وجهة نظره - لا يقبل مبدأ الاختلاف فكريا .. كما يرفض المقولة التي نسبها خطأ إلى الأستاذ حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين ، وهي : الإسلام دين ودولة ..  لأنها  تحمل في مفهومه تناقضا كبيرا فالدين ثابت والسياسة نسبية .. ويعلل ذلك بغياب ( مجال الحوار ) لدى التيار الإسلامي ، فالوعد والتبشير والجنة والنار كلها أشياء لا تمهد لاختيارات سياسية .. لأنها تعبر عن مقادير مكتوبة ومحسومة . وإني أتساءل : هل قبول الإخوان مثلا برجل مثل رفيق حبيب في أعلى مناصب حزبهم يخرج عن مجال فرضيته بوجود مفكر من الوزن الثقيل بجور القيادة الإسلامية ؟وهل قرأ الأستاذ هيكل – وهو كما فهمت من حواره مع الهلال حفظ القرآن الكريم في بيت جده لأمه – قوله تعالى : " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له .." ( الأنعام : 162-163) ؟، وهل هناك إمكانية لدى الأستاذ هيكل للحوار مع مفهوم السياسة في الحضارة الإسلامية التي أشار إليها ابن سينا على سبيل المثال في كتابه " الشفاء " بأنها علم تدبير المنزل أو تدبير الدولة ؟  وهل هناك ضرورة أن يكون النسبي في السياسة منفلتا من عيار الأخلاق والقيم والمفاهيم الإسلامية أيا كانت صورته أو طبيعته ؟

ثم يأتي سؤال يطرحه الحديث التلفزيوني لإحدى القنوات : هل صحيح أن الإخوان لم يكونوا العنصر الفاعل أو الرئيس أو الحامي فى الثورة ، علما أنهم كانوا الفصيل الأبرز في مواجهة الطغاة منذ ستين عاما ، وكانوا زبائن دائمين للمشانق والموت بالتعذيب والمعتقلات والمحاكمات العسكرية الظالمة والتشهير الصحفي الجبان والمطاردة في الليل والنهار والحرمان من الوظائف والدراسة في الكليات العسكرية والشرطية ، والانتساب إلى النوادي الرياضية والاجتماعية ، فضلا عن الملاحقة في السفر لدى المغادرة وعند الوصول .؟ ثم هل يجوز أن يوصف من فاز في الانتخابات التشريعية والرئاسية بالنازية والهتلرية ويتهم بالسطو والهيمنة والاستحواذ ؟ وهل يجوز إزاحة من انتخبهم الشعب والقضاء على الشرعية بالعسكرة في ميدان التحرير؟