إنسان الثورة والنهضة

عبد العزيز كحيل

[email protected]

يفتح نجاح الثورات العربية المجال لعصر الانسان بعد أن عاشت الشعوب أحقابا في ظلّ نظام الاستبداد وسطوة العسكر والبوليس السياسي والحزب الواحد التي ترفع الشعارات البرّاقة وتطبّق نقيضها في سعي ممنهج لسحق آدمية الانسان وإنكار حقوقه الطبيعية ليغدو فردا في قطيع يبلغ سروره الأوجَ إذا وجد الحدّ الأدنى من أسباب العيش و" نَعمَ " بالاستقرار الذي يوفّره القهر وكتم الأنفاس ، وقد ابتليت الأمة بسنين عفاف وُجدت فيها المصانع والمدارس والثكنات والمخابر لكن انعدم فيها العثور على الانسان، أمّا اليوم فيمكن – ويجب – إعادة ترتيب الأمور ليس من الناحية السياسية فحسب وإنما فلسفيا أيضا، فالفكر الغربي يعمل على إيجاد الانسان المنقطع عن الله والمترّد على الخالق، في حين تُمنّي الكنيسة – ومعها الفكر الشرقي – بإيجاد الانسان الفاني في الله، أمّا الاسلام الذي فجّر الثورة هنا واحتضنها هناك وأمدّها بأسباب الاستمرار والنجاح فهو يوجد الانسان المستخلف عن الله، وهذا يقتضي – إلى جانب عناصر معرفية وشعورية وسلوكية متعدّدة – إعادة قراءة التاريخ كمقدمة حتمية لإعادة ترتيب الواقع، ليصحّح الانسان تصوّره لمسار البشرية – ومنها المسلمون – ويعلم أنّ اكتشاف السنن الفاعلة والعوامل المحرّكة يتأتّى من التاريخ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وليس من التاريخ السياسي والعسكري كما يتوهّم أكثر الناس، ذلك أنّ أرباب الثقافة والحركة الاجتماعية و الاقتصادية هم من صنعوا الحضارة فعلا بخلاف الساسة وقادة الجيوش الذين قلّما كانوا صالحين وقلّما كانت معاركهم من أجل المثل العليا والقيم الرفيعة، والتي نادرا ما كانت نافعة للإنسان والعمران ، ويلاحظ المتتبّع للخطّ البياني لتطوّر الحياة البشرية أن المحاور الايجابية كانت في الغالب الأعمّ في صفّ النشاط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي تمدّه بالإضافات المعرفية وخدمة البشر وتحقيق النموّ، في حين كثيرا ما نجد الجوانب السلبية في هذا الخطّ في صفّ العمل السياسي وخاصّة العسكري، ولا يكاد يشذّ عن هذه القاعدة سوى التجربة النبوية والراشدية التي مثّلت الايجابية في كل الجوانب وغمرت بمحاسنها السلبيات الطفيفة التي لا ينفكّ عنها أيّ نشاط بشري.

وهذه الحقيقة التي ندعو إلى التأكّد منها عبر محطّات التاريخ تساعد العاملين على عدم مصادمة نواميس التغيير وعلى إيجاد الانسان الذي يُبدع في تحويل الأفكار إلى آليّات للتغيير ولإصلاح والازدهار بدل انشغاله بالدسائس وإراقة الدماء لاعتقاده أنّ بلوغ سدّة الحكم واكتساح الأوطان هو وحده سبيل الخلافة في الأرض، وأظنّ أن هذه المعادلة لا يفقهها إلا من وفّقه الله للجمع المتوازن بين العقل البارد والقلب الحارّ، وليس في هذا القول أيّ انتقاص من العمل السياسي والعسكري، لكنّها مسألة ترتيب وأوليات على مستوى الرؤية الكلّية قبل الممارسة الميدانية، ومن شأن الثورة الشعبية التي تبشّر بالانتشار في ربوع العالم العربي أن تجعل من الممارسة السياسية عبادة لله ، تُبنَى على العفّة والحق والرفق والرحمة إلى جانب الخلق العظيم والأدب الجمّ، وهذا هو التمكين للمنهج الدعوي في مقابل المنهج الدموي الذي نما في ظلّ الاستبداد العلماني ولم يَعد بأيّة فائدة على الانسان أو البلاد أو الدين.

هذا ، وإذا كان منطق السياسة يركّز على إنفاذ أحكام الدساتير و تحقيق العدل و الاقلاع الاقتصادي – وكلّها غايات مشروعة ومطلوبة بإلحاح- فإنّ منطق الدعوة يجعل على رأس الأولويات بعث الانسان من جديد، بكامل إنسانيته وكرامته وحقوقه لأنه هو منطلق التغيير والنهضة وصناعة الحياة الجديدة على أنقاض الاستبداد،وذلك وفق منظومة فكرية وعملية تجمع وتميّز في آن واحد بين أصول الدعوة وأصول الدولة، وتتجاوز الانهيار المعنوي والنفسي الذي حاقبالإنسان العربي ، وتترك المكان للهمّة بدل الانفجار بسبب التضييق على الآمال وكبت الأشواق، ليتمكّن الانسان الجديد من إماطة الأذى من طريق الأمّة ودينها وشخصيّتها وإرادتها بدل لعن من وضعه فيه، كما يستطيع إبراز النموذج الذي تبشّر به الدعوة منذ عقود، وهو مشروع شعبي ورسمي يضعه الانسان المستخلف ، يناغم بين الأصالة والمعاصرة من غير تكلّف، لأن الربانية نصف الاسلام ، والانسانية نصفه الآخر، والمشهد الكلّي عبارة عن لوحة  بديعة كلّها جمال وكمال تتميّز بالشمول والتكامل والانسجام والمرونة، تظهر فيها لمسة اليد المسلمة التي تصنع – مثل اليد الموسوية – المعجزات بإذن الله بواسطة الأداة المُتاحة، لأنّ العبرة باليد القوية لا بالعصا الخشبية - " والله أعلم حيث يجعل رسالته " - ، وهنا تبدو الرجولة، وهي ليست جنسا بقدر ما هي مجموعة شمائل وأخلاق، يتّصف بها الانسان المتحرّر من الاستبداد فيغدو حقّا رجلا تخامدت فيه أخلاق العبيد وظهرت عليه مخايل السؤدد، فلم يَعُد يستسيغ الاخلاد إلى الأرض مهما تجاذبه التراب بل يمضي إلى تسلّق جبال المطامح ليبني الحياة بعد أن كان يتثاقل منها ويتبرّم من تكاليفها.

إنّ الربيع العربي الهادر حرّر الانسان ووضع قدَمه على طريق النهضة من خلال تحرير وجدانه وضميره وعقله وذوقه، وكأنما نشهد دورة تاريخية عاشها الانسان الأوربي منذ قرون حين انعتق من طغيان الكنيسة واستبداد الملوك، وعاش حركة " الاصلاح الديني" والنهضة، اللتين خلقتا "الشعور الديمقراطي" كنتيجة طبيعية لتيار ثقافي عارم أعاد له حريته التي سلبتها الكنيسة والاقطاع، تمامًا كما حدث للمسلم العربي الذي أُهدرت إنسانيتُه في ظلّ سيطرة الاستبداد السياسي والحكم العسكري- البوليسي والهجمة العلمانية الشرسة التي تصرّ منذ أزيد من قرن على نقله إلى " الحداثة " بأدوات تصادر إرادته وتصدم مرجعيته الحضارية، ولا تترك له فرصة المناقشة فضلا عن الاختيار والرفض، بذريعة أنه أسير الماضي يستصحب أمجادا وهمية صنع منها " ميثولوجيا " وأصبح يصدّق أخبارها ويقدّس مشاهدها، لكنّ هذه العلمانية العدوانية صنعت باسم القومية والاشتراكية والليبرالية واقعا غاية في البؤس ، كلّه مساوي، يأتي فيمقدمتها الاستبداد السياسي والارهاب الفكري الذي يتنكّر لحرية الانسان وكرامته وحقوقه، وقد ملأت على مدى عقود من الزمن الساحة شعارات برّاقة متنوّعة لم تجسّد منها شيئا في الواقع، ويكفي أنها – بالإضافة إلى الاستبداد الذي طبّقته سياسيا وزيّنته ثقافيا – تركت الأمّة في حالة مزرية من الأمية، لذلك يجد إنسان الثورة نفسه أمام العديد من الأولويات الملحّة يمكن أن نذكر في مقدمتها -  من الناحية الدعوية والاستراتيجية – الحرية والعلم لأنّ الأولى تتيح الاختيار بين البدائل في حين تمكّن المعرفة الناس من اختيار البديل الأفضل، حتى لا تنشغل الساحة بمسارات خاطئة تستهلك الوقت والجهد في غير طائل، وستتحرّك أوساط مختلفة هزمتها الثورة أو أحرجتها إلى تعطيل فاعلية الاسلام الذي تلتفّ حوله أغلبية الشعب حتى تشيع بين الناس حالات من الاحباط والعجز تُلقي بظلال الشكّ والريبة على الدين ذاته، وأيادي العلمانية المتطرفة تستنّ بالشيطان في عملها ضدّ المشروع الاسلامي، فالشيطان لا يدخل على الانسان الملتزم من باب المعصية وإنما من باب الترتيب فيشغله مثلا – بالعمل عن العلم وبالسنة عن الفرض وبقيام الليل عن إتقان العمل، وهكذا...وهذا ما ستشهده الساحة العربية المنتصرة من غير شكّ، في شكل جيش من " الناصحين " والمحلّلين والمثبّطين وأصحاب الخبرات ونحوهم، يقصدون التشويش على العقول والضمائر حتى يعمّ الاضطراب التنظيري والتخبّط الميداني فيتعثّر مشروع النهضة الذي يبشّر بالحلّ الاسلامي ويعمل على حشد الطاقات حوله، ولأنّ الخصوم يعرفون عجزهم عن المساس بالإسلام ذاته والثورة ذاتها فإن مخططاتهم الارباكية تمتدّ إلى دوائر الفهم والانجاز حتى ينسحب الفشل على مستواها على الدين نفسه ويخمد أشواق الثورة، فلا بدّ إذن من إقحام الدعوة البصيرة في حماية الثورة ومشروعها النهضوي من خلال تكثيف الوعي لدى أبناء الحركات التغييرية من جهة وعموم الشعب من جهة ثانية حتى لا يبقى الساسة الذين رفعتهم الثورة إلى الحكم أمام عواطف الأنصار هنا ومكايد الخصوم هناك ، والعواطف وحدها لا تحمي الإنجاز بل يجب التحلّي باليقظة الدائمة التي ينبغي ان يبثّها الخطباء والصحفيون والمربّون والكتّاب والمحلّلون السياسيون والاستراتيجيون ومراكز الأبحاث، وذلك بالإشارة المتواصلة إلى مواطن القوة والضعف ونقاط تربّص الخصوم وجديد محاولات الاعاقة والفنون المتّبعة في التضليل وطرق التشويه،ونقل النخبة والجماهير إلى ساحات التواجد الذهني والنفسي والعملي لصدّ الهجمة وإضافة عطاء جديد وحراسة مكسب معيّن والتنبيه على ثغرة مكشوفة ونقل بعض القوى إلى الهجوم المضادّ دعويا وإعلاميا وسياسيا، بذلك نحرس المكاسب الوليدة ونحمي ظهور الدوائر السياسية ونُشعر الثورة المضادّة أنّ الساحة محصّنة وليست – كما يروّجون – هدفا سهلا ولقمة سائغة.

هذه هي المهامّ الأولى التي تنتظر إنسان الثورة، إذا نجح فيها فقد فتح باب التغيير والاصلاح بالفعل، وسيكون قدوة حسنة ونموذجا رفيعا لكلّ من ينشد النهضة.