كذبة "حماية الأقليات" ..

كذبة "حماية الأقليات" ..

عقاب يحيى

تفننوا كثيراً في تسويق مشاريعهم الاستراتيجية عبر تاريخهم التقسيمي في وطننا. اخترعوا ما يليق لهم من الشعارات والفصول والإشكالات ؟ خيّطوا وفصلوا، وقصوا في أرضنا ووطننا . زرعوا واجتثوا، ونمّوا، وحاصروا وفقاً لأوراق كانوا يلعبون بها ويناقلونها، ويتناقلونها فيما بينهم.. وكانت الصهيونية ربيبة مشاريع التقسيم المذهبي الذي عملت له بكل خبث.. وها هم اليوم يرفعون شعارات حماية الأقليات برقعاً جديداً يريدون به اصطياد الثورة السورية التي تقلقهم في أكثر من موقع، ولتغطية مواقفهم، وخططهم، وتركهم شعبنا يمزج الرغيف بالدم .

ـ قبل الولوج إلى مشاريعهم، يجب الاعتراف بمسؤوليتنا تأسيساً في عدم فتح المنافذ والثغرات لينفذوا منها، وتكريس الوحدة الوطنية في الميدان، وليس في الشعارات وأيام جمع التظاهر فقط، وذلك يستدعي خطاباً موحداً من المعارضة، ووعياً متبصّراً لنتائج الشعارات، والتصريحات وبعض ردود الفعل، والانطلاق من فهم مقومات ومفاعلات الوحدة الوطنية لوضع التصورات والبرامج والمهام ..

ـ سورية، بلدنا الحضاري.. الذي تعاقبت عليه الشعوب والأقوام في طيّات التاريخ، وعرّبه الإسلام ووحده مع بقية أصقاع الوطن.. كان واسع الصدر، فسيحاً، كريما ومضيافاً في استقبال ودمج الآخرين مهما اختلفت أصولهم القومية والعرقية، فتآخوا . تناغموا فأبدعوا وأعطوا بلدنا نكهة خاصة كانت أنموذجاً للتعايش والاندماج، وبروز الانتماء الوطني فوق كل ما دونه ..

ـ الدين والمذاهب الإسلامية نتاج مفاعلات كثيرة عرفتها طيّات مسار التاريخ الإسلامي . هنا نشأت بعض الفرق، وهنا استوطن المؤمنون فاتحون يحملون رايات الدين الجديد، فيتوسعون في كل الاتجاهات.. وتصبح دمشق عاصمة الأمويون، والدنيا.. تضمخ العالم بجوهر التعايش بين الأديان، وتمنح البشرية وصلة حضارية متميزة أعطت الكثير في عموم الميادين، وما بخلت، وما استنكفت إلا مُرغمة ...

ـ نادرة الصراعات المذهبية التناحرية في تاريخ سورية، حتى عندما كانت قوى خارجية تؤلب و تتبنى ديناً، أو مذهباً وتدفع باتجاه الاحتراب، وكان التعبير العامي " كل على دينه الله يعينه" يلخص حكمة السوري وبنيته المعرفية..

ـ نعم في سورية خليط كبير من أقوام وأديان ومذاهب، بعض الأقوام قديمة ومؤسسة، وبعضها وافد.. والأديان نشأت في وطننا كعامل جوّاني لم نستورده، والانشقاقات، أو النزاعات المذهبية هي نتاج الاختلاف، وتكريس لتعددية خصبة ومخصبة، ولم تكن يوماً عامل فرقة وتقسيم.. ولم تكن الأكثرية يوماً ـ السنة ـ ضانّة بأخوتها في الدين، أو مع الأديان الأخرى : المسيحيون ومذاهبهم، واليهود وموقعهم..تعايش الكل وحمل الجميع مشروع النهوض القومي، ومهمة إحياء العربية وتجديدها، وعودة الحلم بوحدة أرجاء الوطن ..وفي الثورة ضد فرنسا التحموا جميعاً وقاتلوا كتفاً إلى كتف، وحين انتزعوا الاستقلال قدّموا تجربة رائدة ليس في العالم " الثالث" فحسب، بل على صعيد العالم، يوم كانت دمشق عروس الحريات الديمقراطية، وكان التنافس يقوم على أساس الانتماء السياسي، وصندوق الاقتراع هو الذي يحدد النتائج في نواب الأمة، وليس الطوائف والأديان ..

ـ لنقلها صريحة : لم تكن الأغلبية السنية ـ إن جازت التسمية ـ يوماً مصدر خوف ل"لأقليات" حتى بالنسبة لحركة الإخوان المسلمين التي مارست اللعبة الديمقراطية طوال تلك التجربة الديمقراطية المُغتالة بالانقلابات العسكرية، والأحادية، والحزب الواحد القائد، فالفرد، والتوريث، ومملكة النهب والفساد والرعب والفئوية . كانوا يتنافسون، ويتحاورون. يلتقون ويتفاعلون.. وينتجون الأصلح للبلد.. رغم كل السلبيات والنواقص، ومفاعلات التخلف ..

*******

ـ الثورة السورية في جوهرها، ومبررات قيامها، ومسارها.. لم تكن سنية بالمعني المذهبي، هي ثورة شعب عانى كل انواع المرار حتى فاض الكأس.. فقرر انتزاع الحياة بالتضحية، والمطالب السلمية.. وواجه الرصاص أشهراً بالصدور العارية.. ثم جاءت التطورات نتاجاً مباشراً لفظائع النظام المبرمجة في الإفناء والدمار.. فكان امتشاق السلاح دفاعاً عن النفس والعرض والممتلكات والحلم المشروع، وتطور الأمر إلى الواقع الحالي..

ـ نعم، لنعترف، ان هناك جيوباً وبعض الاتجاهات المتشددة، وهناك بعض المراهقة السياسية في طروحات تبعث الخوف لدى الآخرين، وهناك بعض ردود أفعال من ممارسات تصبّ في خانة التخويف المهوّل، وهناك من يريد حرف الثورة عن مسارها ومصادرتها لصالح أجندة معينة.. وهناك سلبيات ومخاوف متعددة لا نخجل من إعلانها، ولا نهاب الاعتراف بها والعمل على مواجهتها..

ـ لكن من الذي يقوم فعلاً بالفعل الفئوي؟؟.. من الذي يموضع ويجيّش الطائفية، ويشبّحها بقطعان ىالقتلة؟. من الذي يملأ الصدور لناس عاديين بالحقد الكحلي ضد الآخر؟. ومن يقوم بفعل الإبادة المنظم ضد الشعب السوري الذي يطال ـ بكل صراحة ـ المناطق السنية باعتبارها هي التي تتحمل العبء الأكبر في الثورة؟.. ومن يقوم بالتضخيم والتوظيف وحتى الافتعال، بما في ذلك الاختراق وتكليف العملاء بارتكاب موبقات تنسب للثورة، أو لهدا الفريق فيها أو ذاك ؟..

ـ ربما تراجعت شعارات الثورة في الحرية، والدولة المدنية الديمقراطية وتفصيح معانيها، ومركبات التعددية، والتداول السلمي على السلطة، وبرزت العَسكرة بكل ما فيها من إيجاب وسلب.. لكن الثورة السورية الأصيلة، العظيمة، الفريدة.. هي ثورة شعب لأجل بناء وطن آخر للجميع، يقيم العدالة الاجتماعية والمساواة بين مختلف المكونات على أساس الانتماء له، ووفق حقوق وواجبات المواطنية التي يكرسها دستور عصري يضعه الشعب عبر نوابه .

*****

ـ لتغطية مشاريعهم، وطريقة رؤيتهم لمصالحهم، ووسائل النفاذ.. اخترعوا الكثير من " المثبطات" المانعة للقيام بمسؤولياتهم التي تمليها عليها شريعة ومواثيق وحقوق الإنسان..وآخرها اليوم : الخوف على الأقليات.. و.. واجب حمايتها.. وهي ستارة جديدة لجولات من المناورات والمشاريع، بما فيها استقدام قوات أجنبية تحت هذه الذريعة، أو غيرها بينما تركوا الشعب السوري بأغلبيته الساحقة عرضة لكل أنواع المجازر والدمار.. ولم يفكروا لحظة بحمايته !!!...

ـ الثورة السورية هي التي تحمي شعبها، وهي الضامن لوحدة الوطن الجغرافية والسياسية والمجتمعية، ولن تسطيع قوة خارجية مهما كانت أنيابها مفترسة وقوية أن تحمي أقلية أو أكثرية . والثورة قادرة على إيجاد الحلول للأوضاع المأزومة برفض منطق الثأر والانتقام والاجتثاث والتطهير، ووضع الأمور في ميزان العدل والقانون لمرتكبي الجرائم، أصحاب الأيدي الحمراء والسوداء.. أما المذاهب، والأديان.. فهي جزء صميمي من نسيج الوطن، ولا يمكن أن تتحمل وزر موبقات طغمة، أو قتلة، أو شبيحة مأجورين، ومغسولي الدماغ..

ـ إنهم يلتفّون على المطلوب منهم كمجتمع دولي، فيخترعون لنا سلسلة من الأسباب المانعة، وقد تدرّجت، وتنوعت وصولاً إلى نغمة الأقليات وحمايتها.. بينما الدم السوري يسيل بغزارة يويمياً، وتتعرض البلاد لقصف تدميري شامل، وهناك معطيات كثيرة تؤكد استخدام أسلحة غازية، وربما كيماوية محرّمة.. وهم ينتظرون مزيداً من خراب بلدنا واستنزافه..