ثورات الربيع العربي

ثورات الربيع العربي

أثرها على الحياة في الشرق الأوسط

حسام السباعي

مقدمة:

 الحرية مكون أساسي من مكونات بناء الحضارة ، وعندما قامت الحضارة الإنسانية والإسلامية كانت الحرية إحدى المكونات الأساسية للحضارات إضافة إلى العدل والعلم ، وبهذه المكونات الثلاثة يتولد إبداع الإنسان الفكري والثقافي.

عاشت دول الربيع العربي ولعقود طويلة من الزمن  ظلما -  وقهرا -  وكبتا – وفسادا -  شمل كل جوانب الحياة الفكرية و الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والنفسية والدينية ، مما أدى إلى إنهيار وشرخ كبير في البنية التحتية لمكونات تلك الدول ، وولد يأسا تبعه تخلفا كبيرا لدى شعوبها ،  أدى في النهاية إلى وقوع التسونامي الكبير الذي شهدته تلك الدول ، وكانت على رأسها  ثورة الشعب التونسي الذي فاجأ العالم بهذه الثورة الراقية وعبر عن غضبه العميق بأن قام بو عزيزي رحمه الله بحرق نفسه ليضئ درب النور والحرية للشعوب المقهورة المظلومة. وقامت بعدها باقي الشعوب التي أرادت أن تعبر عن مدى الظلم والقهر والحرمان الذي عاشته لفترة عقود طويلة لم تر شمس الحرية منذ عقود من الزمن.

قامت الثورات في تلك الدول ، وولدت أنظمة جديدة في بعضها ، ولم يزل بعضها مثل سوريا يعاني من ولادة عسيرة ملطخة بالدماء والتضحيات ، وخلفت دمارا رهيبا في معظم جوانب الحياة تعجز الأقلام والأفلام عن وصفه.

لقد فطر الله الإنسان وهو خالق الإنسان على حب الأمن والاستقرار ، ووصف ذلك في قوله:                                   " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف "

وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف أنواع الأمن الهامة في حياة الإنسان عندما قال:

     " من كان آمنا في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه ، فقد حيزت له الدنيا بأسرها "

هذه المكونات الأساسية لأمن الإنسان والتي عليها المعول في حياته الكريمة وهي:                           الأمن على حياته من أن تمسها المخاطر ، والأمن الصحي ، والأمن الغذائي

 وبغياب واحدة منها تتهدد حياة الإنسان  ، فقد وضع رسول هذه الأمة في هذه الجمل القصيرة مبادئ حفظ الإنسان التي تقوم عليها لدول ،  حيث كفلت كل الشرائع السماوية والأعراف والقوانين الدولية حياة آمنة للإنسان غير محفوفة بالقلق والمخاطر

فهي أصول ثابتة ومن الضروريات الملحة التي عملت على تحقيقها كل الحضارات والدول التي تريد حقا إحترام ورعاية أبناءها ، وأنفق على هذه الضروريات الثلاثة  جل ميزانيات تلك الدول عندما أنشأت:

الشرطة والأمن:  والتي هدفها حماية الإنسان و المواطن وحماية أمن البلد ونشر الاستقرار فيه ، لا زج الإنسان في غيابات السجون ، وكبحه وظلمه

 الرعاية والتأمين الصحي : الذي يضمن للإنسان صحة جيدة ويزيل عنه القلق النفسي والضغط المالي الذي لايستطيع تحمل أعباءه ، فالعقل السليم في الجسم السليم

الأمن الغذائي : الذي هو من الضروريات الملحة لبقاء الإنسان

فما هي آثار هذه الثورات وتداعياتها على الحياة في  دول الربيع العربي ؟

بعد هذه المقدمة البسيطة ، أريد القول بأن الشعوب في دول الربيع العربي انتفضت كي تبحث عن كل أنواع الأمن الذي كفلته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية ، بدءا بالضروريات الملحة وانتهاء برفاهية الإنسان الذي يستطيع أن يبدعها  إذا توفرت لديه هذه الضروريات الأساسية الهامة.

شعوب الربيع العربي تبحث عن:

الحرية – الكرامة – العدل – إحترام الإنسان وعقله - وذلك من أجل أن تحقق معتمدة على الله أولا ثم على نفسها وقدراتها الكامنة :

 الأمن الغذائي – الأمن الصحي – الأمن الاجتماعي  - الأمن العلمي -  الأمن الاقتصادي – الأمن النفسي – الأمن السياسي – الأمن المعيشي – وكل أنواع الأمن الذي يحقق حياة كريمة عادلة

وشعوب الربيع العربي قادرة على تحقيق كل أنواع الأمن إذا توفرت لها مقومات بنائه السليمة والتي أهمها الحرية والعدل.

لقد ناضلت شعوب العالم من أجل الحرية ، ونجد في أكثر الدول رموزا للحرية فمن تمثال الحرية الذي يستقبل القادم للعالم الجديد وصار رمزا لأمريكا ، إلى قوس النصر الذي هو رمز يعبر عن الحرية في باريس ، إلى ساحات وميادين الحرية المنتشرة في كثير من دول العالم.

الآثار الإيجابية لهذه الثورات على دول الربيع العربي:

 عندما يشعر الإنسان بالأمن والعدل ، فإن عقله الذي وهبه الله تعالى إياه يبدأ في التحرر من القيود المفروضة عليه ، ويبدأ رحلة الإبداع ليحقق كل أنواع الأمن المطلوب ، إنتهاء بالرفاهيات والكماليات  ، وقد رأينا في تاريخنا المعاصر كيف قامت شعوب في بعض دول العالم ببناء نفسها بنفسها عندما توفر للإنسان لديها هذين العنصرين الهامين.

إن الآثار الإيجابية لهذه الثورات على شعوب دول المنطقة ستشمل كل جوانب الحياة :

الاقتصادية و السياسية و العلمية والاجتماعية و النفسية  ، وستشهد المنطقة في السنوات القادمة أمنا لم تعرفه منذ قرون عدة  ، ولكن ذلك يحتاج إلى وقت وزمن ليس بالقصير.

ستشهد المنطقة نهوضا وازدهارا في جميع جوانب الحياة ، ولكن الأمر الهام الذي يحتاج إليه في البداية هو إزالة الركام الجاثم على العقول والصدور لقرون من الزمن ، وهذا سيشكل عبئا كبيرا على المفكرين والباحثين والأكاديميين والسياسيين والاقتصاديين . فالتغيير والبناء الإيجابي ليس كعملية الهدم والإفساد ، وكلنا يعلم أن عملية البناء والانتقال إلى تحقيق العدالة الإجتماعية والرقي والازدهار الفكري والإقتصادي والسياسي والروحي ليس بالأمر السهل ويحتاج لزمن طويل قد يمتد إلى أجيال.

القدرات والإمكانيات موجودة وبكثرة ، والهمة والتطلعات أكثر من أن توصف ، والاندفاع والحرقة بعد هذا الظلم تدفع الإنسان أن يبدأ العمل ليستشعر أنه إنسان يستطيع أن يلعب دورا هاما في بناء حضارة وعلم ومجتمع مزدهر عادل.

التحديات التي ستواجه دول الربيع العربي:

تختلف حجم التحديات من دولة لأخرى ، ولكنها كلها مشتركة في نوع هام من التحديات التي ستواجه دول الربيع العربي في المرحلة القادمة ، ولا أريد أن أتطرق هنا للتحديات الخارجية التي ستواجه عملية التغيير الإيجابي ، ولا الصراعات الإقليمية والدولية المحيطة بالمنطقة ، ولكن الأهم هو التحديات الداخلية التي تتمثل في تربيتنا الفكرية والنفسية والاجتماعية والثقافية والسلوكية والبيئية والدينية التي نشأنا عليها ، والتي لم يكن لنا فيها دور مباشر لأن الذي صنع هذه التربية هو الفساد الممنهج الذي وضعته الدكتاتوريات الحاكمة عندما غيبت الحرية والعدل ، فإذا استطعنا التغلب على التحديات الداخلية أمكننا فيما بعد التغلب على التحديات الخارجية.

 فخلفيتنا الفكرية والاجتماعية هي نتاج  عقود من الزمن تم فيها ممارسة  كل أنواع القهر الفكري ، والقهر الإجتماعي ، والقهر السلوكي ،  مما أدى إلى تكريس مفاهيم وعادات وتصورات وسلوكيات وأفكار من الصعب جدا أن نتخلى عن غير السوي منها في مرحلة مفاجأة غير إعتيادية كمرحلة الثورات التي فاجأت الجميع ولم يكن أحد يتوقعها ، فهذه التربية وهذه الثقافة التي نشأنا عليها بغير إرادتنا أحيانا ولفترة زمنية طويلة هي التي صنعت وبلورت شخصيتنا وسلوكياتنا ومحاكاتنا للأمور.

بكل بساطة لأن تربيتنا فيها شئ من العقد النفسية والسلوكية ، وفيها شئ من الصلابة الفكرية التي يبست وحجمت العقل والاندماج والحوار والليونة والمنطق ،  وفيها ضعف في السلوكيات والقيم المطلقة التي تعتبر من المسلمات ولا جدال فيها ، وفيها غباشة عن بعض التصورات الشمولية والمفاهيم المرتبطة بواقع لايمكن فصله عن العالم المحيط ، فيها الفردية والأنانية ، كل ذلك دون أن نشعر ونحن نمارس أعمالنا بكل إخلاص ، وكل ذلك لادور لنا فيه لأن الذي صنع ذلك فينا هو الزمن الممنهج الذي ركب فينا هذه الشخصية ، والبيئة الاجتماعية والنفسية التي نشأنا فيها والتي

رضعنا من لبنها وكنا لاندرك أن اللبن كان بحاجة إلى إزالة الشوائب منه قبل أن نشربه ، فانحلت تلك الشوائب في جسدنا وصارت جزءا من مكوناته يصعب جدا أن نستأصلها من هذه الخلايا

كي تبدأ الشعوب إصلاح مافسد في كيان الإنسان يحتاج إلى جهد كبير ، ويحتاج إلى مراكز أبحاث تنتج الحلول العملية التي توافق طبيعة هذه الشعوب ، وتحتاج إلى جهد غير عادي من الجهاز التربوي والتعليمي كي يستطيع وبأقل زمن ممكن أن يبدأ بالاصلاح الفكري والنفسي والسلوكي.

كل ذلك ممكن ولكن يحتاج إلى وقت وجهد ومال ، وهنا يكمن دور المفكرين والباحثين وعلماء النفس والاجتماع والتربية والأكاديميين المخلصين من أبناء هذه الشعوب ، ليبدأووا عملية الإصلاح لأنها من أهم العوامل التي تحقق النهضة والازدهار في مجالات الحياة المتنوعة.

أسأل الله أن يهيأ لهذه الأمة أناسا مخلصين واعين ، يرون الحياة بمنظار غير تقليدي ومن زواياها المتشعبة ، ويدركون الصراعات الإقليمية المحيطة بهم ، لأن فقه الواقع والعلم به هو الخطوة الأولى في عملية التقدم والازدهار.