المرجفون

د. ماهر أحمد السوسي

د. ماهر أحمد السوسي

كلية الشريعة والقانون الجامعة الإسلامية

المرجفون: هم الذين يشيعون الأباطيل والأكاذيب بين الناس، حيث الإرجاف في لغة العرب هو إشاعة خبر السوء.

هذه فئة تجدها في كل مجتمع من المجتمعات، وهي إما أن تكون من أصحاب النفوس الضعيفة فاقدة الثقة بذاتها، أو تكون من أصحاب النفوس الخبيثة الذين يهدفون لغرض ما إلى إشاعة الفوضى والانهازم في مجتمعاتهم، وإما من المتفذلكين الذين يسمحون لأنفسهم بالفول بغير علم، من باب الظهور وحب الأضواء ...

وقد رأينا مثل هذه الفئة للأسف في أكثر الأوقات شدة في الحرب الإخيرة، فئة كان توزع الأخبار على هواها، وتحلل الأحداث انطلاقاً من مزاجها الشخصي، ودونما أدنى مصداقية.

بمجرد أن بدأت بشائر غلبة المقاومة تلوح، بدأنا نسمع من هؤلاء عبارات التثبيط وإحباط عزائم الناس ومعنوياتهم، فبدأوا يروجون أن لا تتمادوا كثيراً في التفاؤل فإن العدو ذو يد طولى، وأنه لن يسلم بالهزيمة، وإنه سيرد الصاع صاعين، وأن ما حققته المقاومة من نصر سينقلب إلى غيظ وحنق عند اليهود، مما يزيد في بطشهم بكم، وتنكيلهم لكم، فالويل الويل لكم مما تروجون من نصر.

ثم تظهر فئة أخرى من المرجفين يشككون في مصداقية ما يذاع من قوة المقاومة وعنفوانها، ويبدأوون بمقارنة سلاح المقاومة بما يملكه العدو من سلاح فتاك، ويأخذون في شرح وبيان تلك القوة التدميرية لسلاح العدو، وأننا لا نستطيع بما لدينا من إمكانيات أن نتحمل نتائج هذه المعركة، التي هي خاسرة حتماً بالنسبة لنا.

وفئة أخرى بدأت تروج لدور العملاء، وكيف أن العدو مطلع على كل شيء لدى المقاومة بواسطة عملائه، وأن العدو لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم كل ما تملك المقاومة من عتاد بتفاصيله الدقيقة، وانه قد أعد العدة لذلك، وعليه فإن سلاحنا المكشوف للعدو لا يغني عنا شيئاً.

ثم إن هناك فئة بدأت تشكك في مجريات الأمور كلها، وأن كل ماحدث هو معركة مفبركة، مخطط لها مسبقاً، وأن هذا النصر الذي حققته المقاومة هو خدعة أرادتها أمريكا، حتى تستوعب المقاومة وتضعها تحت جناحها عن طريق إلجائها إلى طلب الهدنة والتفاوض مع العدو.

ثم هناك من قال كيف تدعون نصراً وهذا العدد الكبير من الشهداء والجرحى، وهذا القدر الهائل من الدمار الذي لم يخلُ منه شارع من شوارع قطاع غزة.

وغير ذلك الكثير الكثير من هذه الأراجيف التي أريد لها أن تفت من عضد الجبهة الداخلية، وأن تحبط عزائم الناس مقاومين وغير مقاومين، والتي تدل أولاً وأخيراً على روح انهزامية عند أصحابها، وعدم ثقة بالنفس.

هذه الفئة ذكرت في كتاب الله تعالى في قوله عز وجل: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً)، فئة وجدت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تفعل في ذلك الزمن كما تفعل اليوم، فحذر الله تعالى هذه الفئة بأنها إن لم تنتهِ ليسطن رسوله صلى الله عليه وسلم عليها، وليأذن له بقتلها، ثم أعقب الله تعالى ذلك بقوله (ملعونين أينما ثقفوا ..) أي أن عليهم لعنة الله تعالى أينما وجدوا، هذا حال هذه الفئة في كتاب الله تعالى.

وبتأمل ما يقولون سنجد أنهم لا ينطلقون إلا من أكاذيب وأوهام لا علاقة لها بواقع ولا حقيقة، فعن قولهم أن العدو ذا يد طولى، وأنه سيلحق بنا الأذي الأشد بسبب استهداف عمقه، وأنه صاحب الأسلحة الأقوى والأشد فتكاً، فإننا نقول إن هذا كله لا يعني أن المقاومة لا يمكن لها أن تنتصر؛ ذلك أن الله وعد عباده بالنصر إن هم  وفوا بشرط النصر، وطلب من أن نعد، وقد كان هذا الإعداد، كما شهد له القاصي والداني.

وأما عن مصداقية المقاومة فقد شهد لها العدو قبل الصديق، وهذا واقع مشاهد.

وأما عن قولهم كيف تدعون النصر مع هذا القدر من الشهداء والجرحي والدمار الشديد؟ فإننا نقول إن منطق الحروب يؤيد ما ندعيه من انتصار؛ ذلك أنه لا يمكن دخول حرب لا خسائر، فمنطق الحروب يقول إن المنتصر في الحرب لا بد أن يدفع الثمن، وكذلك المهزوم، والثمن دائماً هو شهداء وأسرى وجرحى، وخراب ودمار.

وعجيب ما يقول هؤلاء!! فهل كانوا يرون أن هذه الأطنان من المتفجرات التي كانت تسقط على قطاع غزة طيلة ثمانية أيام كانت أطناناً من الشوكلاته، أم أن مدافع اليهود التي كانت تدك غزة من البر والبحر كانت تقذف علينا الحلوى.

إن الانتصار والهزيمة لا يقاسان دائماً بهذا بعدد القتلى، فقد سمى الله تعالى غلبة المسلمين في غزوة بدر الكبرى نصراً، وقد استشهد منهم عدد من خيرة الصحابة رضي الله عنهم، حيث قال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وفي التاريخ أن الخسائر البشرية في الحرب العالمية الثانية مثلاً كانت حوالي ستين مليون نسمة من العسكريين والمدنيين، موزعة على جميع الدول التي اشتركت في الحرب، وهذا يعني أن الطرف المنتصر قدم قتلى وجرحى وأسرى، وأصيبت بلاه بدمار، وهذايعني أن المنتصر قدم قتلى والمهزوم قدم قتلى كذلك، ولم يقل أحد أنه لم ينتصر أحد في هذه الحرب، وهذا مرة أخرى هو منطق الحروب.

وعلى ذلك فلا مجال لمثل هؤلاء الناس في مجتمعنا، وإن وجدوا بيننا بحكم الواقع فلا ينبغي أن يكون لهم أدنى أثر على مجريات الأمور، ولا يجب أن يُلفت لما يقولون، أو يلقي لهم أحد بالاً، ويجب أن تحصن الجبهة الداخلية من أراجيفهم.