قراءة في كتاب "إدارة التوحش" لـ "القاعدة"

قراءة في كتاب "إدارة التوحش" لـ "القاعدة"

د. غازي التوبة

[email protected]

صدر كتاب "إدارة التوحش" عن "القاعدة"، وهو من الكتب القليلة التي صدرت عنها بالإضافة إلى كتاب "إعلام الأنام عن قيام دولة الإسلام" والذي استعرضته في مقال سابق، وقد وضح الكتاب إستراتيجية “القاعدة” منذ التسعينات، ومنهجيتها في التعامل مع الواقع المحيط بها، وهو ما زال معتمدا لدى التنظيمات التي انبثقت عن "القاعدة" مثل "داعش" وغيرها.

وقد ذكرت بعض التقارير أن مركز مكافحة الإرهاب في كلية "ويست بوينت" الأمريكية ترجمه إلى الإنجيلزية، ووزعه على بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية، وعلى بعض الضباط في الجيش والاستخبارات الأمريكية. وقد رسم الكتاب مراحل العمل الجهادي فقسمها إلى ثلاثة مراحل: الأولى: شوكة النكاية والإنهاك، والثانية: إدارة التوحش، والثالثة: التمكين، والذي يعني قيام الدولة الإسلامية.

ونحن سنعتمد في تقويمنا لكتاب "إدارة التوحش" على مدى مطابقة مضمون الكتاب للحقين: الشرعي والكوني، فالحق الشرعي: دليله النقل، والحق الكوني: دليله العقل والعلم، وسينجح أي تنظيم في تغيير الواقع بمقدار صواب الحقين: الشرعي والكوني عنده، تحقيقا لقوله تعالى:"قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، وسيفشل في تغيير الواقع بمقدار ما لديه من باطل مناف للحقين: الشرعي والكوني.

ولكن نعتقد أنه من الضروري أن نقف قبل تقويم الكتاب أمام دور "القاعدة" في إسقاط نظام طالبان، وهي الدولة الإسلامية التي كانت “القاعدة” أنشئت من أجل إيجاد دولة مثلها، ومن الضروري أن نتبين حجم الخطأ الذي وقعت فيه في مجال الحقين: الشرعي والكوني إزاء دولة طالبان.

من الجدير بالذكر أن طالبان أقامت دولتها في أفغانستان تحت اسم "إمارة أفغانستان الإسلامية" عام 1995 بعد أن تغلبت على كل قادة الجهاد الأفغاني وفصائله التي قادها: برهان الدين رباني، وحكمتيار، وسياف...إلخ.

ثم انتقل أسامة بن لادن مع قيادات "القاعدة" من السودان إلى "دولة طالبان"  لأنها "الدولة الإسلامية" التي اعتقد بإسلاميتها، وبأنها الدولة التي يجب أن يعمل في ظلها، وبالفعل فقد بايع أميرها الملا محمد عمر، ثم أعلن عن ولادة جبهة إسلامية جديدة تحت اسم: "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" في 23 شباط (فيبراير) 1998. وقد أعلن أسامة بن لادن أيضا عن ولادة تنظيم جديد تحت عنوان "قاعدة الجهاد"، وهذا التنظيم تم نتيجة اندماج تنظيمي "القاعدة" و"الجهاد".

ثم قام تنظيم "القاعدة" بعمليتي تفجير سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام في آب (أغسطس) 1998، ثم قام بتفجير نيويورك وواشنطن في أيلول (سبتمبر) عام 2001، ثم طلبت أمريكا من طالبان تسليمها أسامة بن لادن لأنها اعتبرته المسؤول عن تفجيرات نيويورك وواشنطن، ولما رفضت طالبان ذلك، غزت أمريكا أفغانستان، وأسقطت نظام طالبان عام 2001، وكانت عمليات أسامة بن لادن سببا مباشرا لسقوط هذه الدولة الإسلامية.

ولكن قد يقال أن أمريكا كانت ستسقط نظام طالبان سواء أقام أسامة بن لادن بتفجيراته أم لم يقم،و هذا احتمال وارد ولكنه ليس أكيدا، ولكن عندما يتواجد أسامة بن لادن في أفغانستان ثم يقوم بتفجيرات ضد أمريكا، يقوّي احتمال غزو أمريكا لأفغانستان، ولكن كان يمكن أن نضعف هذا الاحتمال في حال قيام أسامة بن لادن بتفجيراته من خارج أفغانستان، كما فعل حزب الله عندما قام بعمليات مشابهة ضد السفارة الأمريكية في بيروت، مع ارتباطه الأكيد بإيران، ولكن كل قياداته تقيم خارج إيران.

وقد يسأل سائل ما الذي كان يجب أن يفعله أسامة بن لادن و”القاعدة” بعد أن بايع طالبان وأقام فيها غير مافعله؟ أعتقد أنه كان الأولى عليه أن يدعم هذه الدولة، ويشد أزرها، ويعمل على دفعها إلى بناء الشعب الأفغاني بناء إيمانيا قويا وسليما بعد أن تطهره من كل أنواع الشرك، ويعمل على دفعها إلى تعليم الشعب الأفغاني تعليما شرعيا دينيا ودنيويا إلى أقصى المستويات وبأسرع ما يمكن، ويعمل على دفعها إلى إغناء الشعب الأفغاني ورفع مستواه المعاشي من خلال بناء اقتصاد زراعي وصناعي متطور وقوي ومستقل استقلالا كاملا، بحيث تكتفي  أفغانستان اكتفاء ذاتيا، ويعمل على دفعها إلى بناء جيش قوي وصناعة حربية متطورة تحقق أقصى درجات التقدم، وتصنّع كل ما يحتاجه الجيش الأفغاني من الرصاصة إلى الصاروخ مرورا بالدبابة والمدفع والبندقية....

ويمكن بعد هذا البناء لأفغانستان أن تكون دولة قادرة على إنقاذ الأمة والدفاع عن نفسها بشكل أفضل في حال غزوها، وتكون قادرة على بناء قدرات الأمة الإسلامية والاستفادة منها في معركة المواجهة مع أمريكا وغيرها.

من الواضح أن "القاعدة" وقعت في خطأين: شرعي وكوني عندما تسببت في إسقاط نظام طالبان، الشرعي: لأنها ساهمت في إسقاط دولة تعتقد "أدبيات القاعدة" أنها دولة إسلامية في حدها الأدنى، ويدل على ذلك مجيء قياداتها إلى هذه الدولة ومبايعتها لأميرها الملا محمد عمر، والكوني: في أنها خالفت آداب الجندية التي كان يجب أن يقوم بها أسامة بن لادن ومن معه من رجال القاعدة في بناء أفغانستان وطاعة أميرها الملا محمد عمر، لأن الأخبار نقلت أن أسامة بن لادن قام بالتفجيرين دون أخذ موافقة قيادة طالبان.  

والآن: بعد أن بينا الخطأين: الكوني والشرعي الذين وقعت فيهما "القاعدة" بإسقاط نظام طالبان، سننتقل إلى استعراض بعض مباحث الكتاب وتقويمها.

ذكر كتاب "إدارة التوحش" في بحثه التمهيدي الذي حمل عنوان "النظام الذي يدير العالم بعد حقبة سايكس بيكو" أن دولة الخلافة انقسمت إلى عدة دول، ثم صور الكتاب كيفية إدارة هذه الدول من قبل القطبين الكبيرين: أمريكا وروسيا بعد الحرب العالمية الثانية، واعتبر أن العلاقة بين الدول العربية والدولة الكبرى علاقة تبعية لتحقيق مصالح القطب الاقتصادية والعسكرية، ويبرز هذا التصور جانبا من الحقيقة وليس كل الحقيقة، ويغفل عن أن الدول الغربية عندما أزالت دولة الخلافة كانت تسعى من استعمارها للدول العربية إلى أمور سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وتربوية إلخ..، فكانت تسعى إلى تغريب جماهير الأمة وسلخها عن ثقافتها وشخصيتها الحضارية التاريخية، وكانت تريد أن تفرض نموذجها الحضاري في كل المجالات الحياتية، فأرادت أن تكون الدول العربية ليبرالية في ثقافتها، وتابعة لها في إدارتها السياسية، ورأسمالية في تركيبتها الاقتصادية.

وكانت الأداة الرئيسية التي استخدمتها الدول الكبرى هي الفكر القومي العربي الذي أرادت أن يحل مكان الدين الإسلامي، ليصبح الإخاء العربي عوضا عن الأخوة الإيمانية، لذلك لعب مفكرون بارزون مثل ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي دورا بارزا في صياغة الدولة العراقية تحت قيادة الملك فيصل عام 1920، وكذلك لعب عباس محمود العقاد وسلامة موسى وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم من كبار المفكرين المصريين دورا مؤثرا في صياغة التوجهات الثقافية والسياسية والفنية للشعب المصري بعد الحرب العالمية الأولى وبعد ثورة سعد زغلول عام 1919.

لقد أغفل كتاب "إدارة التوحش" كل الحقائق السابقة، لذلك غفل عن جانب من "الحق الكوني" وظن أن علاقة الدول العربية بالقطب الغربي هي علاقة تبعية سياسية فقط وأن الموضوع يمكن أن يحل عسكريا فقط، لكن الحقيقة كانت أعقد من ذلك وأكثر تشعبا، لذلك فمن الواجب حتى نواجه أمريكا علينا أن نواجه التبعية السياسية والعسكرية من جهة، ونواجه الأمور الفكرية والثقافية والاقتصادية من جهة ثانية، حتى نفلح في خلخلة الوجود الأمريكي وإنهائه، ونحقق الاستقلال الكامل من جهة ثالثة.

ثم تحدث الكتاب في مبحث آخر حمل عنوان "وهم القوة: مركزية القوى العظمى بين القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة" عن القطبين العالميين، أمريكا وروسيا، ثم تحدث عن "عوامل الفناء الحضاري"، التي أوردها الكاتب الأمريكي "بول كينيدي"، ثم تحدث عن سقوط الاتحاد السوفييتي ودور أفغانستان في ذلك السقوط، ثم بين أن أمريكا تداركت الأمر واستمرت في التحكم في العالم، ثم حدد الكتاب ثلاثة أهداف للقاعدة في مرحلة التسعينات من القرن العشرين، ونحن سنستعرض اثنين منهما لضيق المجال،  ونبين وجه الباطل فيهما ومخالفتهما للحقين: الشرعي والكوني.

الهدف الأول: القيام بعمليات عسكرية من مثل عمليات نيروبي ودار السلام عام 1998 وعملية نيويورك وواشنطن عام  2001 والقصد منها إسقاط جزء من هيبة أمريكا وبث الثقة في نفوس المسلمين من جهة، واستدراج الجيوش الأمريكية للمنطقة من جهة ثانية، ونحن سنناقش الجزء الأول من الهدف، وسنؤجل الجزء الثاني إلى حين مناقشة الهدف الثالث لأنه يلتقي معه ويكرره.

نلحظ أن الهدف الرئيسي من القيام بعمليات عسكرية حسب تصور “القاعدة”، هو أن تؤدي إلى إسقاط جزء من هيبة أمريكا وبث الثقة في نفوس المسلمين، ومن الواضح أن الأمرين السابقين مرتبطان بالبناء النفسي للمسلم، ولا يكون حل هذين الأمرين: إسقاط الهيبة وبث الثقة  بعمليات عسكرية، بل يكون بالعلم الصحيح بالله وأنه الكبير، العظيم، القوي، الجبار...، ويكون –أيضا- بالامتلاء القلبي بذلك العلم من خلال تعظيم الله والخضوع له والثقة به سبحانه وتعالى، ويكون من خلال تعميق وعي المسلم بأن أمريكا دولة مأزومة لأنها امتداد لحضارة أوروبا التي قامت كرد فعل على أخطاء الكنيسة ورجال الدين، فاعتبرت أوروبا الغيوب أوهاما، وآمنت بمادية الكون، واعتبرت الحقيقة نسبية، وأنه ليس هناك حق مطلق، لذلك فإن هذه الحضارة مأزومة ومازالت تستفحل فيها الأزمات والأمراض والمشاكل، وتنتقل من حفرة إلى أخرى، وأكبر دليل على ذلك تفكك الأسرة، وزيادة نسبة الانتحار، وتفشي المخدرات، وشيوع الفاحشة والرذيلة، وقد أقر بذلك كبار الاستراتيجيين في أمريكا مثل: كارتر بريجينسكي....

من خلال تقويم الهدف الأول –كما رأينا- وقعت "القاعدة" في خطأين: شرعي وكوني، أما الشرعي فهو أنه جهلت كيف يمكن أن تبني الثقة في نفوس المسلمين، وكيف يمكن أن تسقط هيبة العدو، وأما الكوني فهو استخدام العمليات العسكرية في غير مجالها الذي يجب أن تستخدم فيه، وهو: إضعاف العدو، وتدمير قواته، وقتل قياداته، وتخريب منشئاته العسكرية، وتحرير أراض منه إلخ...

الهدف الثالث: استهدفت "القاعدة" من العمليات العسكرية هدفا ثالثا هو استدراج أمريكا لتحارب بنفسها في المنطقة، وتظن “القاعدة” أن أمريكا تتجنب هذا بشكل نهائي، وهذا وهم تعيشه "القاعدة" فأمريكا تتدخل عندما تقتضي ظروفها وسياستها ومصالحها ذلك، وربما كانت أكثر الدول تدخلا -بشكل مباشر- في شؤون الآخرين تاريخ البشرية، وما أساطيلها المنتشرة في كل المحيطات: الهادي، والأطلسي، والبحر المتوسط، الخليج.... إلا دليل على ذلك، وبالعكس تحرص أحيانا في أن تتدخل بجنودها وحدهم، كما حدث في الحرب على أفغانستان والعراق، ومن الأرجح أنها خططت لذلك من خلال استدراج "القاعدة" لتضرب البرجين في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 من أجل تجييش شعبها، ودفعه إلى قبول التضحيات التي سيقدمها من الدماء الأمريكية لأن الخطر وصل إلى رقابهم، ولتزج بالجنود الأمريكيين في حرب مباشرة مع دولتي طالبان والعراق لأنها تعتقد أن إسقاطهما لن ينجح إلا من خلال جنودها.

وللعلم فإن أمريكا تدقق أحيانا في نوعية الجنود، فهي استثنت الجنود السود ذوي الأصول الأفريقية من إنزال النورماندي عام 1945 وأبقت الجنود ذوي العيون الزرق من الأصول الأوربية، وهو الإنزال الضخم الذي حسم الحرب العالمية الثانية وانتهى بانتصار الحلفاء على ألمانيا.

 من خلال تقويمنا للهدف الثالث وجدنا أن الكتاب وقع –أيضا- في باطل كوني عندما جهل كيفية اتخاذ الإدارة الأمريكية لقرارها، وعاش أوهاما عند صياغته لهذا الهدف، فظن أن الأصل في سياسة أمريكا العسكرية هو تجنيب جنودها أية مواجهات على الأرض، في حين أن هذا الحكم باطل، وهي تستخدم جنودها عندما يستدعي الأمر ذلك وضمن حسابات معينة.

الخلاصة: اعتمدنا في تقويم كتاب "إدارة التوحش" على مدى مطابقة مضمونه للحقين: الشرعي والكوني، ووضحنا في البداية دور "القاعدة" في إسقاط نظام طالبان ومسؤوليتها الكبيرة في ذلك، وهي التي اعتبرته نظاما شرعيّاً، كما بينا أخطاء الكتاب: الشرعية والكونية في عدة مواقع، منها: توصيفه لحقبة مابعد سايكس بيكو، ومنها: الأهداف التي رسمتها "القاعدة" لنفسها في التسعينات، ما يجعلنا نقرر أن "القاعدة" وتفريعاتها من داعش في العراق، وحركة الشباب في الصومال، والقاعدة في المغرب العربي إلخ...تسير إلى طريق مسدود لأنها تقوم على باطل عند مخالفتها للحقين: الشرعي والكوني في أغلب أمورها.