الغربة في الوطن مصر

علاء الدين العرابي

الغربة في الوطن مصر

علاء الدين العرابي

عضو رابطة الإسلام العالمية

[email protected]

  سأل مقدم البرامج الشهير الفنانة الشهيرة ؛ وهما من جيل ما قبل مبارك : ماذا تقولين لجارتك إذا جاءت وقالت لك سوف أهاجر ردت الفنانة : الحقيقة أننا نحس كلنا بالغربة الآن في مصر ، ورد مقدم البرنامج بنعم

  قلت في نفسي سبحان من يغير ولا يتغير ، الآن يحس الفنانون والإعلاميون بالغربة ، في الوقت الذي بدأ يتضاءل الإحساس بالغربة لدى غالبية الشعب  ، هذا إذن إنجاز كبير من منجزات الثورة ، فأصحاب النفوذ والحظوة في الدولة ضاقت بهم مصر في حين اتسعت لشعبها الكبير ، لذلك لم نستغرب أن يكون أغلب الفنانين والإعلاميين ضد الثورة منذ يومها الأول ، وذلك لأنهم كانوا من مكونات النظام السابق ، يعتبرونه الدرع والسند ، حتى أن أحد الممثلين سافر للعلاج على نفقة الدولة لأنه مَثَّل دور عن الرئيس

  كان أغلب المصريين يحسون بالغربة في مصر على حين كانت قلة قليلة يحسون أن هذا الوطن هو وطنهم ، من هؤلاء رجال الأعمال الفاسدين ، ومنهم بعض الفنانين والإعلاميين المفسدين ، والفساد له صور متعددة فمنه الفساد المالي ومنه الأخلاقي ، ومنه ما يمكن أن نسميه الفساد الثقافي ، وهو أن يتولى من لهم علاقة بالثقافة إخراج ثقافة مجتمعهم عن مسارها  00

 

  فإذا كان رجال الأعمال أفسدوا اقتصاد البلاد فإن كثيرا ممن ينتمون إلى الفن والإعلام أفسدوا ثقافة الشعب ، ونحن هنا لا نعمم فلاشك أن هناك من أهل الفن والإعلام من لم يكونوا ضمن هذه المنظومة ، ولا شك أن هناك أعمالا جيدة بعيدة عن الفساد     

   المفارقة في هذا الموضوع هو أن الجميع يدعي حب مصر ، والكل يدعي وصلا بليلى ، فهل يجتمع حب الوطن وتعمد إفساده في قلب واحد ؟00  وهل يمكن أن أدعي حب الوطن وأنا أسرق ثرواته ، أو أفسد ثقافته ؟ كيف لي أن أستسيغ خطاب الرئيس المخلوع بأنه ولد وعاش في هذا الوطن ويريد أن يموت فيه ، وهو الذي سرق ومكن ثلة من الفاسدين من سرقة هذا الوطن ، وهو الذي أفقر هذا الوطن وأذل أهله ، وهو الذي نزل بهذا الوطن إلى أسفل سافلين ؟!  الوطن لا يمثل المكان فحسب بل يمثل أيضا الانتماء لترابه ولأهله ولثقافته    

  فالإنسان الذي يسرق وطنه ويفسده بالطبع لا ينتمي إليه ، ولا يُقبل أن يدعي حبه ، فحب الأوطان شيء فطري وقديما قالوا : عمر الله الأوطان بحبها ، وإلا كيف نفسر تعلق أحدنا بوطنه مع أنه ليس بأجمل الأوطان ولا أروعها

  أحب الشعب المصري مصر ، ولكنه شعر بالغربة فيها ، وكره المترفون الفاسدون مصر ولكنهم لم يشعروا بالغربة فيها ، بل أحسوا بملكيتهم لها ، هؤلاء المترفون المفسدون أول من يهاجر من الوطن ، إذا أحسوا أن  الوطن قد عاد إلى المتعبين الكادحين

  في تاريخنا حدث عظيم يدل على الإحساس بالغربة وحب الوطن وهو حادث الهجرة ، فعندما أحس المسلمون بغربة في وطنهم مكة لم يكن أمامهم إلا الهجرة ، فخرجوا مهاجرين وبقي منهم من لم يستطيع الهجرة ،  وعندما جاء موعد الرسول صلى الله عليه وسلم ألقى نظرة الوداع على مكة وأخذ يحدثها وكأنها كائن حي ويقول : " أما والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت . "

أحس المسلمون بالغربة في مكة عندما احتكرها زعماء الجاهلية ووقفوا أمام الدعوة الجديدة التي تحقق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية فقد ساء هؤلاء أن يقرر الإسلام " كلكم لآدم وآدم من تراب " ثم ليقرر " أن الناس سواسية كأسنان المشط " ثم ليقرر " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " فكيف يقبل هؤلاء هذه المبادئ وقد عاشوا مجتمع السادة والعبيد

 مصر ما قبل الثورة كانت مجتمع السادة والعبيد ، كان السادة يعيشون سارقون مترفون ، وكان العبيد يعيشون تحت خط الفقر في عشوائيات يستحيل أن توجد على وجه الأرض في القرن الواحد والعشرين

الفرق بين الهجرة والثورة المصرية أنه في الهجرة خرج المسلمون بحثا عن وطن يحمي حرية العقيدة ، وعندما رجع المسلمون إلى مكة فاتحين رجع إليهم وطنهم الحبيب الذي أحسوا فيه بالغربة

أما في الثورة المصرية فقد خرج المصريون من مصر قبل الثورة بحثا عن وطن يجدوا فيه لقمة عيش بعدما التهم المفسدون كل الرزق ، وبحثا عن الكرامة التي افتقدوها في وطنهم ، وهم في طريقهم إلى الوطن البديل غرق بعضهم في قاع البحر ، وعندما قامت الثورة ورجعت مصر للمصريين زالت الوحشة من صدورهم ، وانتقل الإحساس بالغربة إلى المترفين المفسدين ، وأما حكاية هجرة الأقباط من مصر فهي حكاية سخيفة لا توجد إلا في الفضاء الإعلامي الرخيص ، فقد عاد المصريون - مسلمين وأقباط - من رحلة الغربة إلى وطنهم مصر.