مصير مضيق هرمز

كاظم فنجان الحمامي

بين سراب العظمة الحالمة وخراب القوة الغاشمة

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

ملف خاص يتناول أزمة مضيق هرمز من زاوية ملاحية خالصة, ويسلط الأضواء على العوامل المهددة لسلامة الملاحة في هذا المجرى الدولي الحيوي, ويناقش الاحتمالات المتوقعة المرتبطة بمقتربات المضيق وممراته الملاحية الفاصلة بين قوافل السفن القادمة وقوافل السفن المغادرة

بين صخور رأس مسندم وصخور مدينة هرمز ينحشر عنق الزجاجة, ليشكل حدود أهم الممرات الملاحية الضيقة في كوكب الأرض, وأكثرها ازدحاماً بحركة السفن والناقلات العملاقة القادمة والمغادرة من والى الموانئ الخليجية كافة. .

في هذا المكان بالذات يكتسب مضيق هرمز أهميته الملاحية والتجارية والإستراتيجية بصفته المنفذ البحري الوحيد لموانئ العراق والكويت والبحرين وقطر والمنفذ البحري الرئيس لموانئ إيران والسعودية والإمارات وعمان, فيفصل بين الخليج العربي من جهة وبين خليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة أخرى. .

الملامح الجغرافية للمضيق

يقع الممر الملاحي للمضيق برمته في المياه الإقليمية العمانية, التي تمتلك وحدها حق الإشراف والتنظيم والمراقبة, وتقع عليها واجبات تأثيث المضيق بالعلامات الملاحية, بيد ان هذا الحق لا يلغي حقوق السفن غير العمانية من التمتع بحرية المرور والعبور. .

يبلغ عرضه العام (54) كيلومترا, لكنه يضيق عند نقطة التقارب بين الضفتين العمانية والإيرانية حتى يصل إلى (34) كيلومترا, اما عرض الممر الملاحي المخصص لدخول السفن فيبلغ ميلين بحريين فقط ويقع إلى الجانب الإيراني, وكذا بالنسبة للممر الملاحي الآخر المخصص لخروجها, والذي يقع إلى الجانب العماني. تفصل بين الممرين مسافة عازلة تقدر بميلين بحريين في النقطة, التي تتقاطع عندها إحداثيات خطوط العرض بإحداثيات خطوط الطول:-

خط العرض

26°34'0.00"N

خط الطول

56°15'0.00"E

وللمزيد من التوضيح نذكر إن خط العرض المشار إليه هنا, هو (26) درجة, و(34) دقيقة شمالاً, وخط الطول هو (56) درجة, و(15) دقيقة شرقاً, ويضم المضيق عدداً من الجزر الصغيرة, أكبرها جزيرة (قشم), وجزيرة (لاراك), وجزيرة (هرمز), إضافة إلى الجزر الثلاث المتنازع عليها بين إيران والإمارات, وهي (طنب الكبرى, وطنب الصغرى, وأبو موسى), والتي أصبحت في قبضة إيران منذ عام 1971 وحتى يومنا هذا,

شيء من التاريخ

مر مضيق هرمز بسلسلة متعاقبة من المضايقات الحربية والسياسية لم تمر بها المضايق البحرية الأخرى, فلم يفلت من الأطماع الاستعمارية, ولم ينج من الصراعات الدولية للسيطرة عليه والتحكم بقوافل السفن المارة به, فمنذ قرون بعيدة وهو يلعب دوراً دوليا وإقليميا هاما أسهم في التجارة الدولية, وفي تحريك مواقع القواعد الحربية الغربية في المنطقة. .

كان حكراً على سفن القراصنة, ثم وقع في قبضة الأسطول البرتغالي, لكنه أصبح فيما بعد من اخطر محاور الصراع بين الأساطيل الفرنسية والهولندية والعثمانية, ثم وقعت معركة الأرمادا, التي حسمت النزاع على زعامة البحار والمحيطات بين البرتغاليين والبريطانيين عام 1588, وانتقل بعدها ليصبح من أهم النقاط الإستراتيجية في مخططات الأدميرالية البريطانية, التي كانت تعده مفترق الطرق لأساطيلها الحربية ولقوافلها التجارية المتوجهة نحو خليج عمان والبحر العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي, فمنحت نفسها حق التدخل في شؤون الدول التي ارتبط مصيرها به, وكانت شركة الهند الشرقية هي التي تتحكم بمسارات السفن المارة بالمضيق, وهي التي تفرض عليها الإتاوات بموافقة الإمبراطورية العثمانية وبدعمها المطلق, حتى أصبحت صاحبة الامتياز في تنظيم الملاحة من مدخل شط العرب وحتى جزيرة سيلان, ومن باب المندب وحتى مضيق موزمبيق فرأس الرجاء الصالح, ثم تأججت براكين الصراع على المضيق بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية, فازدحم ميناء عدن بالأساطيل السوفيتية, وترددت بعض قطع الأسطول السوفيتي على الموانئ العراقية في زيارات خاطفة, في الوقت الذي توسعت فيه القواعد الأمريكية في دويلات الخليج العربي, وانتهى الصراع لصالح البنتاغون الذي كان يرى في المضيق عمقه السوقي, وبوابته الآسيوية نحو تعزيز قدراته الحربية التوسعية. .

الملفت للنظر ان مضيق هرمز ظل مفتوحا بوجه السفن والناقلات المترددة على الموانئ الخليجية, على الرغم من تضارب المواقف السياسية, وعلى الرغم من كل الأزمات والخلافات والحروب والتشنجات, التي شهدتها المنطقة في العقود الماضية, ولم تتعطل فيه الملاحة يوما واحدا في أحلك الظروف التي عصفت بها, وكانت الناقلات العملاقة والسفن التجارية المحملة بشتى أنواع البضائع تعبر المضيق جيئة وذهابا بعد الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر) عام 1980, وهو اليوم الذي تفجرت فيه الحرب العراقية الإيرانية, والتي استمرت في غليانها حتى عام 1988, وهنا لابد لنا من الإشارة إلى التهديد الذي أطلقته إيران عام 1984, عندما فكرت بغلق المضيق على أثر الضربات الجوية العراقية الموجعة, التي استهدفت إغراق وتدمير الناقلات الإيرانية المحملة بالنفط, واستهدفت أيضا قطع الطريق بين جزيرة (خارك) ومضيق هرمز, حتى وصلت الغارات الجوية المباغتة في بعض طلعاتها إلى جزيرة (لاراك), واقتربت من ميناء بندر عباس, ووقعت بعض الصواريخ عند حافات المضيق, ما اضطر الفرقاطات الأمريكية إلى مواكبة ناقلات النفط والغاز لتأمين سلامتها وسلامة طواقمها, في حين قامت البحرية الإيرانية في بعض مناوراتها بإخضاع السفن والناقلات التجارية المارة بالمضيق للتفتيش القسري. .

وفي نيسان (أبريل) 1988 اصطدمت فرقاطة أمريكية بلغم بحري زرعته إيران عند مقتربات المضيق, أدى انفجاره إلى غرق الفرقاطة, وتدمير وغرق عدد كبير من السفن الإيرانية الصغيرة, وفي شهر تموز (يوليو) من العام نفسه أطلقت إحدى السفن الحربية الأمريكية صاروخا موجها ضد طائرة ركاب إيرانية فأسقطتها في البحر مع ركابها (290 راكباً). .

ثم تأزمت الأوضاع مرة أخرى بين أمريكا وإيران من (2007), إلى (2008) عندما تعمدت بعض الزوارق الحربية الإيرانية السريعة استفزاز قطعات الأسطول البحري الأمريكي الخامس. .

اما أقوى الحوادث التي تعرضت لها السفن داخل المضيق, فهو الاعتداء الذي تعرضت له الناقلة العملاقة (M. Star) يوم 28/7/2010 اثناء عبورها المضيق في طريقها من ميناء (جزيرة داس) بالإمارات إلى اليابان, وكانت ترفع علم جزر مارشال, ويديرها طاقم ياباني, فطاردها زورق سريع يقوده شاب انتحاري (أيوب الطيشان) من تنظيم القاعدة بأحزمة ناسفة, فانفجر الزورق بمحاذاة الناقلة, ما أدى إلى إصابتها بأضرار طفيفة بسبب متانتها وبنائها المتماسك, وكان من المتوقع أن تنفجر وتغرق وتندلع النيران بحمولتها التي تقدر بنحو (270000) طن من النفط الخام, فتتوقف الملاحة في المضيق لأسابيع وربما لأشهر, ولحين إزالة الحطام الغارق والسيطرة على آثار التدمير البيئي. .

النفط يرسم ملامحه المستقبلية

تزايدت أهمية المضيق منذ اليوم الذي أُكشفوا فيه أولى آبار النفط الخليجية في منطقة مسجدي سليمان بإيران, ثم توسعت الاكتشافات النفطية والغازية في حوض الخليج العربي, فتدفقت الناقلات العملاقة على موانئ المنطقة, وتصاعد سقف الإنتاج حتى تجاوز الأرقام المتوقعة, فتحددت مساراتها عبر هذا المنفذ البحري الضيق, وتأثرت تحركاتها برياح التقلبات السياسية والمواجهات العسكرية, التي عصفت بأقطار الخليج ودول الشرق الأوسط. ما اضطرها للبحث عن الطرق الكفيلة بتخفيف اعتمادها على مضيق هرمز, والاستعانة بمد خطوط الأنابيب إلى منافذ التصدير البديلة على البحر الأحمر, أو البحر الأبيض المتوسط, أو عبر المنافذ التركية, لكنها ظلت مقيدة بتداعيات الظروف الاستثنائية, ولم تكتمل منافعها التشغيلية في المحاور المرتبطة باستيراد المواد الأساسية والسلع الثقيلة والمعدات الحربية. .

تتدفق عبر المضيق كميات هائلة من ثروات الخليج العربي المصدرة إلى الموانئ العالمية تقدر بنحو (17) مليون برميل يومياً, تحملها حوالي (15) ناقلة نفط عملاقة تمر يومياً عبر المضيق, ناهيك عن مئات السفن التجارية الكبيرة والصغيرة, ومئات زوارق الصيد, ما يعني إن 40% من نفط العالم يمر عبر هذه البوابة الضيقة, إلى جانب خطوط الشحن البحري الأكثر كثافة في العالم. .

لغة التصعيد التعبوي

قد يظن البعض إن إيران لا تمتلك الأسطول الحربي, الذي يؤهلها لغلق المضيق بالمقارنة مع السفن الحربية الأمريكية, والسفن الغربية الأخرى المؤازرة لها في حوض الخليج العربي, وقد يبني البعض ظنونه على التقنيات العالية, التي ينفرد بها الأسطول الأمريكية, وقدراته السوقية الفائقة, في تحويل الحرب إلى لعبة من ألألعاب الرقمية الحديثة, بيد أن بعض المحليين الاستراتيجيين ينسفون تلك الظنون, ويسخرون منها, فالبروفسور (Talmadge) من جامعة جورج واشنطن يقول: (إن إيران قادرة تماما على غلق المضيق إذا كانت ترغب بذلك), ويصف العملية بأنها (لقمة سائغة Cakewalk), وهذا ما أكد عليه قائد الأسطول الإيراني بقوله: (إن غلق المضيق عندنا أسهل من شربة ماء), وجاءت ردود الأفعال الإيرانية على اثر التصريحات الغربية بتضييق الحصار الاقتصادي عليها, على خلفية النشاطات النووية المتصاعدة, وكأنها تريد أن تقول: ((اما أن نكون طرفا في اللعبة, أو لا نسمح لكم باللعب في ملاعبنا)), الأمر الذي اضطر قطعات الأسطول الحربي الخامس, الذي يتخذ من البحرين ملاذا له, إلى اتخاذ الإجراءات التعبوية الفعالة لرصد التحركات الإيرانية في المضيق, وتأمين سلامة المسارات الملاحية الرئيسة في مياه الخليج وخارجها, ومن ضمنها القيام بطلعات روتينية للتأكد من خلو البحر من الألغام. .

يتألف الأسطول الحربي الإيراني من (25) غواصة, وأكثر من 100 قطعة بحرية تقليدية متباينة الأحجام والاختصاصات, بينما يتألف الأسطول الأمريكي الخامس من أكثر من (20) قطعة حربية تخصصية عالية الكفاءة. .

لقد صرح الكابتن (جون كيربي John Kirby) الناطق باسم البنتاغون, أكثر من مرة عن ثقة الجانب الأمريكية بالقدرات الاستثنائية التي تمتلكها الأساطيل الحربية لقوات التحالف, في التصدي للهجمات الإيرانية المحتملة, وفي تأمين الحماية لأصدقائها في المنطقة), في حين أكدت الخبيرة الدولية بالشؤون الإيرانية (سوزان مالونيSuzanne Maloey): ((إن التصعيد السياسة لأزمة مضيق هرمز سيؤثر تأثيرا مباشرا على ارتفاع أسعار النفط)), وتكمل السيدة (مالوني) حديثها عن الصراع الخليجي الجديد, بالقول: (لا أظن إن الشعب الإيراني يصغي لطبول الحرب التي تقرعها الآن بعض الكيانات الإيرانية المحرضة على العنف)), اما البروفسور (Talmadge) فيقول: (إن إيران أشبه بالولد الصغير الذي يقلد صوت الذئب لإخافة رفاقه في القرية), أو (إنها كالصبي الذي يعوي كالذئب, فهي تعوي دائما بهرمز). .

 ((They are the boy who cried wolf, or the country who cried Hormuz))

فبين آونة وأخرى يطل علينا أحد المسؤولين الإيرانيين ملوحا بعصا غليظة, ومهدداً بإغلاق المضيق في حال تعرض بلاده للخطر, وهكذا تصاعدت حدة التصريحات المتبادلة على نحو يثير قلقاً إقليمياً وعالمياً, خشية تطور الأمور إلى مواجهات مسلحة, فأقدمت طهران على خطوةٍ أخرى لتأكيد مواصلتها لأنشطتها النووية, في الوقت الذي قامت فيه بمناوراتها الحربية في المضيق, في وقت عصيب وشديد الحساسية, واستمرت في مناوراتها على مدى عشرة أيام بلياليها. .

ولو عدنا قليلا إلى الوراء لاستذكرنا التهديدات المتكررة بغلق المضيق, نبدأها بتهديدات (حسن فيروز آبادي) رئيس أركان الجيش الإيراني, وتهديدات (يحيى رحيم صفوي) المستشار العسكري للمرشد الديني الأعلى, وتهديدات (محمد علي جعفري) قائد الحرس الثوري, وكلها توحي بان الحرب باتت وشيكة. .

ثم جاءت تهديدات القادة الأمريكان لتصب النار على الزيت, وكانت أكثر تشنجا وتعنتا, فنبدأها بتهديدات (وليام غورتيني) قائد الأسطول الأمريكي الخامس, وتهديدات الجنرال (مارتن ديمبسي) رئيس هيئة الأركان المشتركة, وتهديدات (فيليب هاموند) وزير الدفاع البريطاني, وكلها توحي بان القوى العظمى لن تقف مكتوفة الأيادي, وإنها ستخوض حربا طويلة الأمد قد تستمر لأعوام, قياسا على الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت عام 1980 لتنتهي عام 1988. .

لقد تركت هذه التهديدات تداعياتها المباشرة على تصرفات شركات خطوط الشحن البحري, التي سارعت بفرض زيادات كبيرة على رسوم التأمين على ناقلات النفط العملاقة وسفن الحاويات, بعد التهديدات الإيرانية المتواصلة. .

وكانت تلك التهديدات المتكررة السبب المباشر في تشييد المرافئ العربية البديلة, والتي ستكون قادرة على تصدير أكثر من مليونين برميل يوميا من النفط الخام, عبر أنابيب مغمورة في قاع البحر, تحت مضيق هرمز نفسه, داخل المياه الإقليمية العمانية, وقد انتهت المرحلة الأولى من المشروع في منتصف عام 2010, وباشرت الإمارات فعليا بضخ النفط عبر هذه الخطوط البديلة, التي أسهمت إسهاما مباشرا في تقليل تكاليف الإبحار عبر المضيق, واختزال المسافة والزمن, ناهيك عن تقليل تكاليف الشحن والتأمين, وتوفير ضمانات السلامة والأمان للناقلات المترددة على المنطقة. .

من يمتلك القدرة على غلق المضيق ؟؟

ليس هناك أسهل على الجهات التخريبية من غلق المضيق, ولا أسهل عليها من تعطيل الملاحة في هذا الممر البحري الدولي الحيوي, فالأعمال التخريبية, والمخططات التدميرية, أسهل دائما بملايين المرات من مشاريع البناء والتعمير, وربما لا تكلفها عملية غلق المضيق أكثر من بضعة دولارات لشراء بضعة كيلوغرامات من مادة (سي فور), فالعملية الإرهابية التي تبنتها القاعدة يوم 28/7/2010, والتي نفذها الانتحاري الإماراتي (أيوب الطيشان), واستهدفت وقتذاك تفجير الناقلة العملاقة (M. Star) وسط مضيق هرمز, كانت قريبة جدا من تحقيق أغراضها التخريبية, لو لم تكن الناقلة محصنة من الخارج بجدارين فولاذيين معززين بالدعامات الصلبة, ولو لم يكن التفجير وقع في هذا المكان بالذات, ثم ان الزورق الذي ركبه (أيوب) كان من زوارق الصيد الصغيرة, التي لا  تجلب الانتباه ولا تثير الشكوك, لذا فان تكرار مثل هذه العمليات يعد من الاحتمالات الواردة جدا, وإن قيام فرد واحد بإطلاق قذيفة صاروخية واحدة, أو بضعة قذائف من القذائف المحمولة المقاومة للدروع, من نوع (RBG7) هو الاحتمال الأقرب للتصديق والتطبيق, فما بالك بزرع عشرات الألغام في طريق الناقلات المغادرة, في الممر الملاحي, الذي لا يزيد عرضه على ميلين بحريين فقط ؟, وهناك الكثير من الأدوات والمعدات المتاحة والرخيصة, التي يمكن أن تلجأ إليها المنظمات والأطراف الخبيثة لتفجير السفن العابرة للمضيق, وإلصاق التهمة بإيران أو بالقاعدة أو بأي منظمة أو دولة أخرى. .

مما لا ريب فيه أن إيران تمتلك سواحل بحرية مترامية الأطراف يبلغ طولها من ميناء (خرمشهر) إلى ميناء (جابهار) حوالي (3200) كيلومتر, تطل على الخليج العربي, وخليج عمان, وبحر العرب, والمحيط الهندي, يتخللها أكثر من (45) ميناء, ومئات المنافذ البحرية, ولها في الخليج العربي وحده عشرات الجزر الكبيرة والصغيرة, ابتداءً من جزيرة (مينو) إلى جزيرة (لاراك), وعندها كم هائل من زوارق الدورية السريعة, وآلاف الزوارق المطاطية التكتيكية, وعشرات الفرقاطات والحوامات والمدمرات والبوارج وسفن الإنزال والغواصات وسفن الإسناد والتموين, وتمتلك أكثر من مليون سفينة خشبية تابعة للقطاع الخاص من النوع المخصص للصيد, والتي يمكن استدعائها, وتكليفها ببعض المهام القتالية, مع الأخذ بنظر الاعتبار إن إيران تمتلك اليوم أكبر الأساطيل التجارية في كوكب الأرض, بأسماء وعناوين وواجهات متباينة, حتى لا تلفت الانتباه, وقد أبدت أمريكا تخوفها من تنامي الأسطول التجاري الإيراني منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا, ولا يعلم الناس حتى الآن: إن الأسطول التجاري الإيراني يمثل أكبر مصادر القلق الأمريكي, فقد تبنت إيران منذ عام 1980 سياسة بحرية منحت ملاك السفن مزايا سخية يندر وجودها في الأقطار الأخرى, إذ وفرت لهم الدعم المطلق, ورفعت عنهم الرسوم والضرائب, وجهزت سفنهم بالوقود والزيوت بأسعار رمزية, بموجب معادلة حسابية تعتمد على حجم القوة الحصانية ومقدار المسافة المقطوعة, فتنامت أساطيلها التجارية حتى بلغت الذروة من حيث عدد السفن, ومن حيث حمولاتها الإجمالية المسجلة, ومن حيث تنوعها وتخصصها, ثم تبنت إيران سياسة مينائية أخرى, عززت سياستها البحرية التجارية, عندما اعتمدت في المقام الأول على السفن الإيرانية في تصدير واستيراد البضائع من والى الموانئ الإيرانية, فتكاثرت سفن الأسطول التجاري, وتعددت مهماتها, وشكلت عمقا سوقيا جديدا مضافا لسلاح البحرية الإيراني, حتى أصبح من الصعب التكهن بأماكن تواجد سفنها المنتشرة حول العالم, ومن الصعب التكهن بحمولاتها ونواياها. .

الملفت للنظر إن الأسطولين الإيرانيين (الحربي والتجاري) ارتقيا بخطوط متوازية, وحققا قفزات نوعية هائلة منذ عام 1990, وجاء تفوقهما على حساب تقهقر القوة البحرية (الحربية والتجارية) الخليجية, لذا فان الاختلال في توازن القوى بين ما تمتلكه دولة واحدة (إيران), وبين ما تمتلكه سبع دول بكامل عدتها وعتادها (العراق, السعودية, قطر, البحرين, عمان, الإمارات, الكويت), يعد سابقة خطيرة تنذر بسلسلة من العواقب الوخيمة, وتفرض على دول المنطقة الدخول في تحالفات مذلة ومكلفة. .

وبالتالي فان الحسابات التعبوية والتطبيقية تقول: إن الدولة القادرة على امتلاك ناصية التفوق البحري ستكون قادرة على غلق المضيق, وربما يغريها تفوقها, وتدفعها عنجهيتها ذات يوم, فتصاب بجنون العظمة, وتقدم على تنفيذ هذه الخطوة الانتحارية, التي ستزلزل الأرض تحت أقدامها, وتقلب عاليها سافلها, أما إذا أقدمت أمريكا على تنفيذ هذه الخطوة, بقصد إلصاق التهمة بإيران, واتخاذها ذريعة لخوض الحرب الكارثية, فإنها سترتكب حماقة ما بعدها حماقة, لذا فان غلق المضيق أسهل بكثير من ألعاب التسلية المنزلية, وأخطر في الوقت نفسه من كل الحروب الكونية الساحقة. .

ماذا لو أغلقوا المضيق ؟؟

مما لا ريب فيه إن قيام إيران بغلق المضيق سيؤدي إلى إغلاق موانئها ومرافئها في حوض الخليج العربي, وسيعطل أنشطتها التجارية كافة, اما موانئها الواقعة خارج الخليج فمعظمها من (البنادر) البدائية, التي تفتقر لأبسط المقومات المينائية, ولا تصل طاقتها الاستيعابية إلى طاقة ميناء واحد من موانئها المخنوقة في شط العرب, بمعنى إن إيران ستكون هي الدولة المتضررة الأولى, بينما ستكون الأضرار المينائية طفيفة على الدول العربية الأخرى, المعتمدة على الموانئ البديلة منذ ثمانينات القرن الماضي من خلال شبكة معقدة من الطرق البرية, وشبكة أخرى أكثر تعقيدا من أنابيب النفط والغاز, فالسعودية والإمارات لديهما منافذ أخرى للتصدير, فيما لدى الكويت استثمارات خارجية تغنيها عن تصدير النفط لفترات طويلة, ناهيك عن الخطوط البحرية البديلة التي استحدثت بعد عام 2010, ومع ذلك فان للقلق السياسي والعسكرية والجماهيري ما يبرره, فاحتمالات الحظر النفطي على إيران باتت شبه وشيكة, واحتمالات توجيه ضربة إيرانية استباقية لحاملات الطائرات الغربية المتدفقة على المنطقة أصبحت من ضمن الاحتمالات الواردة, وبخاصة بعد الضربات الخفية التي تلقتها إيران بغاز الكيمتريل لحرق مزارعها وحقولها الزراعية, والحرب الالكترونية الموجهة ضدها بأسلحة (السايبر), اما الحرب التقليدية التي يحتمل أن تشنها أمريكا ضد إيران فمازالت قائمة لسببين اثنين, السبب الأول: محاولتها امتلاك سلاح نووي فتاك, والسبب الثاني: تحولها إلى قوة إقليمية عظمى تهدد الهيمنة الأمريكية في المنطقة. .

نحن الآن في نهاية الشهر التاسع من عام الحسم الذي أعلنته إسرائيل على لسان رئيس هيئة أركانها (بن غانتس), والذي قال فيه : إن عام 2012 سيشهد نهاية إيران. .

إن من يقف على مشارف مضيق هرمز سيرى بأم عينه تدفق القطعات الحربية البحرية إلى حوض الخليج العربي, وسيرصد كثافتها, وسيلاحظ انتشارها, حتى وصلت إلى أقرب نقطة من حقول (نوروز), وحقول (فريدون), و(اردشير) تحت عنوان قوات التحالف (Coalition forces), في حين بدت علامات الخوف والذعر واضحة على ملامح الساسة الخليجيين, الذين عبروا عن خشيتهم من تعرض محطات تحلية المياه لضربات مباشرة, قد تؤدي إلى تعطيش البلاد في غضون (24) ساعة. .

ما يحيرني هنا هو التصريح الذي أطلقه الكويتي (ناصر الدويلة) عن استعدادات الدول الخليجية للدخول باشتباكات مسلحة ضد إيران إذا أقدمت على غلق مضيق هرمز, معربا عن تفاخره بخطط دول مجلس التعاون الخليجي للدخول بمواجهات مسلحة ضد إيران, هكذا يتحدث (الدويلة), الذي لا يعي ما يقول, وكأنه لا يعلم إن بعض الدويلات الخليجية هي التي تآمرت على العراق, وهي التي دمرت قوته البحرية, وهي التي مددت حدودها اليوم فوق أطلال قاعدة الخليج العربي في أم قصر, وهي التي انتهكت حرمة مقر قيادة القوة البحرية العراقية والدفاع الساحلي, ومقر اللواء البحري السابع, واللواء البحري السابع والسبعين, وهي التي اشتركت في إغراق سفن العراق وزوارقه الصاروخية, وهي التي تبحث اليوم عن من يوفر لها الحماية, ويصون سواحلها المفتوحة, ويحرس ممراتها الملاحية المارة عبر المضيق, الذي ظل مصيره القلق يتأرجح منذ ربع قرن بين سراب العظمة الحالمة, وخراب القوى الغاشمة. .

ختاما نقول: إن إشعال فتيل الحرب في الشرق الأوسط صار اليوم من أسهل الألعاب العسكرية الطائشة, التي يمكن افتعالها بلمح البصر, لكن التحكم بنتائجها, وإخماد نيرانها, والسيطرة على براكينها, هو الأمر الصعب, الذي لا يمكن تحقيقه إلا بعد مضي أعوام وأعوام من تفجر الكوارث والويلات والمصائب, التي ستعيدنا إلى عصور الجهل والتخلف, في حرب ضروس لا ناقة لنا فيها ولا جمل. . .

والله يستر من الجايات