حديث المرآة

د.أحمد البراء الأميري

د.أحمد البراء الأميري

[email protected]

كلنا نعلم أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم اختص بسجايا ومزايا انفرد بها، وسما بها إلى الأفق الأعلى للكمال الإنساني. ومن هذه المزايا: أنه أوتي جوامع الكلم، أي أنه كان قادراً على إبراز المعنى العميق الواسع، بألفاظ قليلة تتسم بالوضوح، والبلاغة، والجمال.

ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم حديث لا يزيد على ثلاث كلمات، كلما أنعمنا فيه النظر، ازددنا به إعجاباً، وأدركنا من أغوار معانيه أسراراً!!

روى أبو داود، والطبراني، والبزار، وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن مرآة المؤمن". والمشهور على ألسنة الناس: (المؤمن مرآة أخيه).

تأملت في هذا الحديث فاتضحت لي من أغوار معانيه آفاق واسعة عديدة: فالمرء لا يستغني عن المرآة، إذ لا تكاد تجد بيتاً يخلو منها، ينظر فيها صاحبها قبل مغادرة بيته، وإذا أراد التجمل لزائر أو مَزور، وإذا صادفته مناسبة جد أو هزل.. يستوي في ذلك الرجال والنساء، وهي عند النساء أهم وأحظى.

والذي يقف أمام المرآة هو في الحقيقة يستنصحها، ويسألها أن تقدم له صورة صادقة عن نفسه. وكما أنني لا أنتظر من المرآة أن تأتي إلي، وتقف أمامي وتقدم لي النصيحة، فكذلك ينبغي ألا أنتظر أخي الصادق حتى يأتي إلي، بل الحكمة تقتضي أن أذهب إليه وأطلب نصيحته.

والمستشار يجب أن يكون مخلصاً أميناً مثل المرآة.. فالمرآة إذا وجدت على ثوبي نقطة حبر صغيرة – مثلاً - فهي لا تكبرها، ولا تصورها نقطتين! وهي تسدي نصيحتها بأدب جم ولطف بالغ، بل إنها تسديها بصمت لا يجرح الشعور! وكذلك يجمل بالناصح أن يكون.

وأنا أقبل نصيحة المرآة، ولا أتهمها بالكذب، وبمحاولة الإساءة إلي، وكذلك المنصوح – متى اعتقد بصدق الناصح عليه ألا يحاول التهرب من الاعتراف بالغلط، والاعتذار منه بأعذار كاذبة.

والمرآة – كذلك - لا تكتفي بإظهار العيوب فقط، بل تبرز المحاسن أيضاً: فالوجه الجميل فيها يظل جميلاً وإن عراه ما يحتاج إلى تنظيف، والثوب الأنيق يبدو أنيقاً وإن احتاج إلى إزالة بعض البقع التي فيه. وكذلك الناصح عليه أن يلطف نصيحته بذكر ما يناسب من محاسن المنصوح له.

والمرآة لا تفشي سراً، ولا تحدث جاراتها بعيوب مستنصحيها، فإن غادرها الناظر محت كل شيء. وكذلك الناصح، يكتم أسرار أخيه المنصوح، ويداري أخطاءه وعيوبه. وقد أخذ بعض الشعراء لمحة من الحديث الشريف فقال نظماًً:

صديقي مرآة أميط بها الأذى=وعضب حسام إن منعت حقوقي

وإن ضاق أمري أو ألمت ملمة=لجأت إليه دون كل شقيق