أنور الجندي.. رائد الصحافة الإسلامية!!

صلاح رشيد - مصر

هناك جانب مضيء في حياة أنور الجندي كان فيه بمثابة "الرائد" غفل عنه الكتاب الإسلاميون، وقصروا فيه لأنهم أمام "موسوعة" فكرية، و"أسطول" معرفي.. قلما يجود الزمان بمثله. ولذلك درسوه ناقداً ومفكراً وأديباً ومؤرخاً وموسوعياً، فوفوه حقه في كل ما سبق، ولم يلمعوا إلى هذا الجانب المهم الذي تفرد فيه أنور الجندي حتى أصبح رائد مدرسة في هذا الفرع الحيوي من حياتنا المعاصرة.

هذا الجانب هو "الصحافة" بما لها من بريق وشهرة، وسطوة ونفوذ، تجعل الكل يشتهيها ويستميلها ويتقيها، وتؤدي ببعض من أبنائها إلى التنصل من القيم والأخلاق على حساب الخبر الزائف والمعلومة المختلقة والوشاية!!.

وإذا كانت سمات الصحافة المعاصرة – في كثير من أمورها - هي الأمور السابقة، فإن أنور الجندي أخذ على عاتقه منذ بداياته الصحفية، حيث عمل صحفياً في جريدة "الجمهورية" وكان عضواً في نقابة الصحفيين بمصر، وفرضت عليه ظروف العمل أن يحتك بالشيوعيين الذين اضطهدوه وأوقفوا النشر له، وتحالفوا ضده – في فترة كان فيها المد الشيوعي جارفاً وصاخباً ومسيطراً في مصر- أقول: أخذ على عاتقه مهمة إرساء مدرسة صحفية إسلامية ناجحة، ذات معالم واضحة وقسمات تأخذ من الماضي والحاضر وتنفتح على الآخر بشروطها ومعاييرها الفكرية والعقدية.

سمات المدرسة

على أن أول ما كان ينصح به أنور الجندي هو المثابرة والتحمل والصبر أمام كل العقبات والصعاب التي سيجدها الصحافي المسلم، وألا ينخدع بالأساليب الملتوية التي تمارس ضده، ولكن عليه أن يقاوم وأن يبني نفسه فكرياً ومهنياً لكي يكون "الأول" في مجال عمله، وليثبت للجميع أن الإسلام يدعو أبناءه إلى طلب المعالي.

ويذكر أخلص تلاميذ الراحل الكبير أنه عانى كثيراً عندما شق طريقه في عالم الصحافة، وتندر واستهزأ به وبعلمه وفكره أصحاب النفوس الضعيفة، فما وهن لما أصابه وما ضعف ولا استكان، وإنما وجدناه "فارساً" مغواراً يستعد ليوم النزال، حيث كان يذهب يومياً "لدار الكتب المصرية" لقراءة الدوريات الصحفية والأدبية القديمة وفهرستها وتبويبها، وجمع المادة الصحفية من أمهات المجلات والصحف الرصينة "كالرسالة" و"المقتطف" "الثقافة" "أبوللو" في مصر.

وفي هذا درس عظيم ومعلم واضح تؤكده سيرة حياة الصحفي الكبير الرائد أنور الجندي، وهو ضرورة إعداد الصحفي لنفسه مهنياً وفكرياً قبل الشروع في الكتابة والعمل الصحفي، وأن يتمرس على الكتابة الأدبية الصافية العذبة، قريبة المأخذ، عظيمة الجوهر والمضمون، والتي تبتعد عن الإسفاف والابتذال، وتتبع عورات الناس وإشاعة الفواحش!!.

ولذلك يقول أحد تلامذة أنور الجندي: إن الفقيد ذكر له ذات مرة أنه "فهرس" جميع الصحف والمجلات المصرية في القرن الماضي، وأنه حدد اتجاهاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية، وعرف خصائص المجتمع في كل فترة من فترات القرن المنصرم. وأنه أكد: أن الصحافة هي مرآة المجتمع التي تتبلور من خلالها الأفكار والتيارات والمذاهب والإيديولوجيات، وأنه إذا أردنا أن نصف فترة ما بصفة معينة، فما علينا إلا مراجعة الصحف والمجلات في هذا الشأن.

الصحافة "الكاريكاتورية"

ولا يعرف الصحفيون ولا الأدباء أن لأنور الجندي كتاباً قيماً بعنوان "الصحافة الكاريكاتورية" ألفه في الخمسينيات وضمنه رموزاً وتلميحات لنمط الحياة والمجتمع في ذلك الوقت. وأطر فيه لسمات "الكاريكاتير" ذي الصبغة الإسلامية، الذي يعالج موقفاً أو أزمة تمر بها الأمة المسلمة، بعيداً عن التطاول أو الإثارة أو التعرض المخل بالفكرة وجوهر الموضوع.

ومن المدهش والمحزن في آن واحد.. أن هذا الكتاب النفيس غير موجود في مكتبة الراحل أنور الجندي، ولا توجد منه نسخة حتى الآن، وربما يكون ضاع مع ما ضاع من كنوز لكبار الأدباء والمفكرين والعلماء.

إثبات الذات

ومما يحكى عن الراحل الكريم أيضاً اعتداده بنفسه خاصة مع أعدائه الذين يتكبرون عليه، لذلك ذهب في أحد الأيام إلى رئيس تحرير جريدة الجمهورية، وهو الممنوع في الكتابة فيها.. وكان آنذاك كامل الشناوي، وقال له بالحرف الواحد: ألا يستحق من ألف هذه الكتب "يعني نفسه" الفكرية والحضارية أن يكون من كتاب الجريدة!!

ذهب الجندي إلى خصمه، وهو يعرف رده المسبق، لكنه أراد تعليم صغار الصحفيين درساً في المواجهة والصمود وإثبات الذات أمام من يهدم عمل المجيدين!!.