لا للاستفزاز ولا للعنف المجاني واللصوصيّة المنظّمة

لا للاستفزاز ولا للعنف المجاني واللصوصيّة المنظّمة

م. فتحي الحبّوبي

هذا النصّ نشر بالفرنسيّة في نسخته الأصليّة، لأنّه يتوجّه بالأساس إلى الرأي العام الغربي ، ثم ترجمه صاحبه إلى العربيّة

كل شيء قيل وقد جئنا بعد فوات الاوان. هكذا قال الأديب الفرنسي المحافظ  دي لا برويير  De la Bruyère ، في سياق مناصرته للأدب الكلاسيكي على حساب الأدب الفرنسي  المعاصر. ولكن اعتبارا إلى أنّي لا أعتقد في صحّة و صواب هذه المقولة، فإنّي سأدلي بدلوي ،ولو متأخرا،  مساهما في الجدل الحاد القائم اليوم و الناجم عن نشر رسومات كاريكاتورية قذرة  ومسيئة للرسول في كلّ من  صحيفتي Charlie Hebdo  الفرنسيّة وDer Spiegel الألمانيّة، وقبل ذلك منذ بثّ فيلم "براءة المسلمين"، الخسيس و المعادي، هو الآخر، للإسلام والذي يحمل إساءة كبيرة وتجديف على النبي الأكرم صلّى الله عليه وسلّم . قطعا  أن ّ قدسية شخص الرسول محمّد، و قدسيّة حرية التعبير، تختلفان تماما حدّ التعارض الكلّي والتصادم، بين قيمتين فاضلتين تندرجان ضمن منهجين بل و سياقين لا يلتقيان أبدا. وهما سياق الحرية هاهنا، من حيث هي قيمة من قيم الأرض، وسياق عبادة ما وراء الطبيعة  ها هناك، من حيث هي قيمة من قيم السماء. وهما قيمتان على طرفي نقيض. لذلك فإنّ الصراعات والتوترات التي أثارتها في الماضي، تمثّل نموذجا صارخا لهذا التعارض  التاريخي والتصادم الجوهري.

وأمّا المنازعات الحادّة الناجمة، بصفة مخصوصة، عن توزيع بعض مقاطع من الفيلم سيء الذكر على الإنترنت ، والتي تحرّض بل وتجيّش الشارع اليوم  فهي مدينة -بما لا يدع مجالا للشك- بشيء ما، لهذا التعارض بين القدسيتين والقيمتين الأرضية والسماويّة ، أي بين سياقين مختلفين. لدرجة أنّنا لنتساءل أحيانا لماذا تطرح للنقاش في مثل هذه الجدالات هذه القدسيّة أو تلك. ولئن كان هذا الجدل أو الشجار ذا شراسة وعدوانيّة مرضيّة وغير مألوفة فإنّه سمح في ذات الوقت للأنصار الذين يعتقدون في قدسيّة قيم الأرض ومنها الحرية  أو في قدسيّة قيم السماء ومنها شخص الرسول محمّد، أن يكشف كل فريق منهما عن استراتيجيته في الجدل مع بيان الحجج ذات العلاقة.

فالغرب، والولايات المتحدة في الصدارة، باعتباره السيّد الحالي للأمم وزعيم العالم، وباعتباره ناضل و لا يزال من أجل التمتّع  بممارسة حرية التعبير والإبداع الفنّي، التي أكتسبها من خلال العديد من التضحيات، يعتبر هذه الحرّية بحق، واحدة من أسس حقوق الإنسان. لهذا كانت حجّته –بمعنى من المعاني -إستفزازية، حيث أعلنها في لهجة ساخرة وغالبا ما كانت بإستعلاء  واستكبار، مستبعدة  أي محاولة للتنازل. وهو ما زرع التناقض في طبيعة الوضع المحتدم الذي بات لا يطاق. حيث تأكّدت عقليّته  التي لا تعير اهتماما يذكر للفروق الدقيقة التي تميّز الآخر. إنّها حجّة تشير إلى روح مهوسة بالعدوانية و الخوف من الإسلامislamophobie وكراهية الأجانب xénophobie ، بل لعلّها مسكونة أحيانا  بما يطلق عليه علم النفس "بغض الجنس البشري" misanthropie.

أمّا المسلمون ، سادة الأمم وزعماء العالم  قبل عصر التنوير، الذين قاتلوا ويقاتلون إلى اليوم، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، لتأكيد حقوقهم المنهوبة، والدفاع عن كرامتهم المستباحة ودينهم المنتهك ، فإنّ ردّة فعلهم، على الرغم من أنّها تتّسم في بعض الأحيان بالغلو والعنف الذي يفاقم  الضرر بالإسلام الذي هم يعتقدون الدفاع عنه. فإنّها تندرج في سياق ومنطق الدفاع عن إنسان عزيز عليهم، و لكون قدسيّته لها أولويّة على قدسيّة حرية التعبير التي هي ذاتها مقدّسه عندهم هي الأخرى. لكنّها بدرجة أقلّ قداسة في ترتيب الأولويات المطلقة.

وباختصار، هناك بالفعل جدل يتميّز ببذاءة هذا الفعل المستفزّ والمتمثّل في  بثّ الفيلم الدنيء والحقير رغم تواصل الاحتجاجات العنيفة في كامل أرحاء الدول الإسلاميّة. أمّا كفر مؤلفي الفيلم من النمّامين المنتسبين إلى الاقباط  الأمريكيين وإلى الإسرائيليين  فهو واضح جدا. وكم هو مضرّ بهم وبغيرهم على حدّ السواء. وهو ما لا يحتاج إلى دليل مادي غير المشاهد المقزّزة  المقرفة  للفيلم. إنّ الفضيحة باتت واضحة إذن، بل هي صارخة  وتعزّز منحى صدام الحضارات الذي جاء به صأمويل فلبس هنتنجتون Samuel Phillips Huntington وتكرّس فكرة أن الغرب كانت له دوما و بالتأكيد فكرة استراتيجية خلف الرأس في مواجهة العالم العربي والإسلامي. وهوما يسمح لنا، دون شك، باعتماد نظريّة المؤامرة؟

ذلك أنّه بالنسبة للعرب والمسلمين فإنّ الحرّية الأكثر قداسة إنّما هي حرية العبادة . و في هذا الخصوص فإنّهم يعتقدون أنه ينبغي النظر إلى  طلبهم حظر نشر فيلم "براءة المسلمين"، لا باعتباره إهانة شخصيّة لرسولهم  وهجوم ضد دينهم فحسب، بل وكذلك باعتباره  أحد "الإلتزامات الأخلاقيّة" الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.  والتي تحدّ، بل وتحظر أيضا حرية التعبير عن طريق الإكراه''exigences morales" prohibant la liberté d'expression par la coercition.

ولعلّ وضع المسلمين المستشيطين غضبا اليوم يذكرني بالموت المأساوية للفيلسوف اليوناني سقراط كما وصفها جون جاك روسو JJROUSSEAU''  : «سقراط لم يشرب "الشوكران"Socrate n'eût point bu la ciguë ، لكنه شرب من فنجان أكثر مرارة، إنّها السخريّة المهينة والازدراء وهما مائة مرة أسوأ من الموت ». إنها مقارنة واضحة متمرّدة على كل الفروق الدقيقة، وطبيعة الوضع ،تبدو، لا تطاق. إنّها جريمة مدبّرة، أليس كذلك؟

في هذا الجدل، اعرب الخصمان عن فرديّتهم. ففي حين أن البعض يعتبر انّ حرية التعبير والإبداع  الفنّي التي هي  من المقدسات تسمح له بإهانة الآخرين وخاصة منهم العرب والمسلمين، فإنّ البعض الآخر قد أظهر، بأفضل طريقة يراها، أنّه لا يسمح البتّة  بتدنيس دينه. وأنّه من أجل الدفاع عن هذا الدين، فهو على أتمّ  الاستعداد للتضحية بذاته أو التضحية بالآخرين.  لذلك فنحن الآن في وضعيّة  حرجة، لا يقدر أحد على التنبؤ بنتائجها. إلّا أنّه، وبصرف النظر عن الغرغرة gargarismes المعتادة للإسلاميين ، وخاصة السلفيين منهم، فقد حان الوقت للاعتراف بأن الطريقة التي احتجّوا بها هي الأكثر همجية والأقل تحضّرا. علاوة على انّها لم  تتغير منذ الاحتجاجات الأولى سنة 1988 ضد سلمان رشدي و'' آياته الشيطانية''

الآن وقد أصبح كلا الطرفين يتصرّف بوجه مكشوف، فإنّنا نأمل أن خلافاتهما، لا تؤدي إلى قطيعة تامّة بين الحضارتين الغربية والإسلاميّة، بل تفرز نقطة تحوّل في العلاقة بينهما. تحوّل، آمل أن يتميز بتعاون خلاّق يكون بديلا لعلاقة الصراع بينهما ماضيا وحاضرا. علما وانّ العالم العربي يستورد 80٪ من المنتجات الهندسية والصناعية و60٪ من احتياجاته الغذائية. ومن المفارقات أن هذه التبعية وانعدام الأمن لا  تحضي حتى بمجرّد النقاش. في حين أنه من أجل فيلم تافه ضعيف الكتابة وسيّء الإنتاج من قبل مجرّد هواة ليس إلّا، أو من أجل رسومات كاريكاتوريّة بذيئة ، نشرت هنا وهناك  في صحف غير معروفة أو هي معروفة بأنّها صفراء، يردّ العرب والمسلمون على  حرية التعبير، عن طريق العنف لدرجة أن تتعرض حياة الناس التي كم هي عزيزة للخطر، جرّاء أفعال مجانيّة لا تستند إلى العقلانيّة والتبصّر بل إلى الإنفعاليّة المفرطة غير محسوبة العواقب.

وعلى أية حال، فإنّ الفكرة التي تلحّ بقوّة في مثل هذا الظرف، هي أنّ الفيلم لا يعدو أن يكون مؤامرة أوروبيّة -أمريكيّة. وبعبارة أخرى، ينظر إلى الاحتجاجات العنيفة على أنها تمّت برمجتها من قبل بعض الدوائر المغلقة  والخفيّة،  الغربية أو الإسرائيلية، التي تهدف ليس فقط إلى زعزعة استقرار العالم العربي والإسلامي الذي هو في حالة غليان  منذ الثورة التونسية، والإساءة بشكل كبير للعلاقات  المسيحية –الإسلاميّة، وبصفة خاصة العلاقات القبطيّة-الإسلاميّة في مصر، ولكن الأهم من ذلك، الإسهام بشكل فعّال في فشل الرئيس أوباما في الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر 2012. هذا هو بيت القصيد من الفيلم. لهذا فإنّي كثيرا ما ، أسأل نفسي هذا السؤال: «  ما جدوى تنظيم مثل هذه المظاهرات وحركات الاحتجاج من قبل الأصوليين الذين يستثمرون في كثير من الأحيان الشارع بصوت عال وبطريقة عنيفة لا تكتفي بالهتاف المناهض للولايات المتحدة أو فرنسا وما لفّ لفّهما ؟ ». حيث أنّ هذه الاحتجاجات كثيرا ما تؤول إلى  انفلاتات  وتجاوزات فتشهد أعمال عنف و شغب لا يستفيد منها سوى  الجناة واللصوص  وأعداء المسلمين ، الذين ليس بوسعهم إلّا تعميق مأساتنا التي  تتواصل منذ قرون خلت، و التي ستؤدي حتما إلى خلق بذور الانقسام في مجتمعنا، و قد تمهّد الطريق للتدخل الأجنبي الذي يؤدي دائما إلى الكوارث (حالة إيران وكتاب الآيات الشيطانية في عام 1988، وحالة أفغانستان وهجوم 11سبتمبر 2001).وغير خاف أنّ هذه  الكوارث قد تسمح للغرب بالسيطرة على العالم العربي لاستعباده وبالتالي ضمان الأمن والهيمنة الإقليمية لإسرائيل؟  إنّه ، بوضوح، ما يمكن أن يكون الخطيئة التي لا تغتفر، التي يجب تجنب ارتكابها قبل فوات الأوان. وتحيّتي لمن يصغي جيّدا Et à bon entendeur salut!