نخنوخ الثقافة !

نخنوخ الثقافة !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

اشتهر الشخص الذي يحمل اسم نخنوخ في ملاهي شارع الهرم وعالم الليل والجريمة ، وصار له أتباع وأنصار يخيفون المسالمين والآمنين ومن لا يخضعون لإراداتهم وسطوتهم ، ووصل صيته إلى السلطة الفاسدة ، فباتت تعتمد عليه في تزوير الانتخابات وتصفية الخصوم السياسيين ، وتدبير الفخاخ لاصطياد من يستعصى على السلطة الغشوم ، حتى تحول إلى واحد من أبرز رجال السلطة لا يقل أهمية عن الوزراء والكبار المتنفذين ، وقد أخفق أكثر من مسئول كبير في تقديمه إلى القضاء بحكم علاقاته بمن هو أكبر من هذا المسئول .. ثم صار الرجل بعدئذ نجما من نجوم المجتمع الناعم ؛ يذهب إليه الممثلون والمطربون والموسيقيون وأهل الفن والمزاج الراقي !

هذا بعض ما ذكرته الصحف القومية والحزبية والخاصة عن السيد نخنوخ الذي صار علما على البلطجة في أبشع صورها وأشكالها ..!

للأسف ؛ فإن البلطجة ليست قاصرة على عالم الجريمة والليل ، ولكنها امتدت بفضل النظام المستبد الفاشي إلى عالم الأدب والثقافة والفكر ؛ فقد رأينا مؤخرا من يقوم بهذا الدور الإجرامي ، ويمثل دور البلطجي الذي يقهر خصومه والمسالمين والآمنين في حقل الثقافة بقوة البلطجة وطول اللسان والاعتماد على قوة النظام البائد التي تقف وراءه ووراء أمثاله ممن صدّرهم ليكونوا عنوانا على المشهد الثقافي في مصر الذي وصل إلى أحط مستوى في عهد المخلوع !

نخنوخ الثقافة ظل طوال ستين عاما يعمل لحساب القوى الشريرة الحاكمة في الداخل والخارج ، ولا يخجل من تحولاته وعمالته لهذا النظام أو ذاك ، يحركه مركّب النقص الذي يشعر به باستمرار نتيجة عدم حصوله على مؤهل عال ، في الوقت الذي تحمل فيه زوجته درجة الدكتوراه ! 

نخنوخ الثقافة يحمل دبلوم محو الأمية ، ومع ذلك يتطاول على كبار العلماء والمثقفين والأدباء الذين لا يصل إلى مستوى أقدامهم ، ويصفهم بالنكرات المجهولين الذين يبحثون عن الشهرة . ومشكلة نخنوخ الثقافة وأمثاله ممن قصّر بهم المستوى العلمي والثقافي أنهم يظنون أن الشهرة التي صنعها لهم النظام الفاسد في الإعلام الموجه غير الرشيد وغير المهني ، يمكن أن تعوّض قصورهم العلمي والثقافي ، مع أن راقصة بطن درجة ثالثة أو مطربا رديئا أو لاعب كرة صغيرا أكثر شهرة من أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والعقاد ومصطفي صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات وعزيز أباظة ومحمد فريد أبو حديد ومحمود حسن إسماعيل ومحمد عبد الحليم عبد الله وعبد الحميد جودة السحار ونجيب محفوظ وكبار أدباء مصر ومثقفيها ومفكريها .

مركّب النقص أو الإحساس بالدونية يد فع حامل شهادة محو الأمية إلى ركوب الصعب حين يسبّ مثقفي الأمة الحقيقيين ، ويصفهم بالنكرات المجهولين ، وينفي عنهم صفة الثقافة والأدب ، ويصورهم بأنهم مجموعة مدرسين ليس إلا ! وأعتقد أن هذا السبّ الرخيص لا يثبت مزاعمه وسوء أدبه ، فالناس الذين نسميهم الجمهور هم الذين يحكمون على ما يتلقونه من أدب وفكر وثقافة ، ويقوّمونه بمدى التقبّل والعمق والإتقان .. ولو أخذنا بمقاييس الشهرة والتعتيم لقلنا مثلا إن العلامة محمود محمد شاكر الذي عاش محاصرا من أنظمة القمع والاستبداد التي كان يخدمها نخنوخ الثقافة ببلطجته وأكاذيبه وادعاءاته وتقاريره الأمنية ،  يفوق مئات من مثقفي الحظيرة ومئات من نخانيخ الثقافة ، ويكفي أن هذا النخنوخ الثقافي صاحب مركب النقص لا يستطيع أن ينظم بيتا واحدا من القوس العذراء – ولابد أنه يعرفها – التي نظمها شاكر في غمرة أبحاثه وتحقيقاته ، ولقد ضربت مثلا بالشعر لأن النخنوخ يدعي أنه شاعر كبير ومجدد في الشعر العربي . لا أريد أن أقارنه بما بذله شاكر في ميدان التحقيق العلمي والأدبي ، لأن النخنوخ لا يستطيع ولا يقدر – مهما أوتي من بجاحة وادعاء – أن يحقّق صفحة واحدة مثله ، لسبب بسيط وهو أنه فسل من الأفسال الذين ابتليت بهم مصر في زمن العار والشنار والكنز الاستراتيجي للغزاة اليهود ! 

وقد خطر لي – ولست متخصصا في علم النفس – أن أحلل تحولات نخنوخ الثقافة المشينة مذ خرج من قريته في أعماق الدلتا ، وترك أسرته المتواضعة ، وعمله معلما للأطفال وفقا لشهادته البسيطة ، ثم التحاقه بالصحافة ، وتركه للإخوان المسلمين الذين لم يجد عندهم في أوائل الخمسينيات ما يشبع طموحه لينضم إلى الماركسيين ، ثم يغادرهم إلى البيادة البعثية في دمشق ومنها إلى البيادة البعثية العراقية التي كانت أكثر سخاء في عهد صدام ، وأتاحت له فرصة الذهاب إلى باريس ليضرب عصفورين بحجر ، حيث صار معلما للأجانب هواة تعلم العربية في السوربون بمؤهله المتواضع ، وكاتب تقارير عن رفاقه الشيوعيين الذي كانوا يسمون أنفسهم بالطيور المهاجرة ، وهو ما جعل  السادات يستقبله في استراحة القناطر الخيرية مرتين ..

وبعد السادات صار النخنوخ مقربا من الرئيس المخلوع ومدعوا إلى احتفالاته ومناسباته الثقافية وغير الثقافية ، وكان آخر من قابلهم المخلوع في 30/9/2010 م قبيل انهيار نظامه المستبد الفاشي ، ضمن الأحد عشر كوكبا من الحظائريين الذين مازالوا يشكلون الحظيرة الثقافية و، ويغرفون منها مرتبات ومكافآت وجوائز ومناصب وشهرة ودعاية .

لاشك أن النخنوخ الثقافي طعِم وسمن وبشم في عهد بيادة المخلوع ، فقد استحوذ وكوّش وسيطر وهيمن ، وأعطاه فاروق حسني ما لم يحلم به حامل مؤهل متواضع لا يصلح إلا لمحو الأمية أو تعليم الأطفال ، وجعله بالصفاقة والتبجح يصف المثقفين الإسلاميين بأنهم نكرات مجهولون لا يعرفهم أحد ، وأنهم يبحثون عن مغانم لدى النظام الجديد الذي لا مستقبل له كما يزعم .

وأعتقد أن النظام الجديد للأسف الشديد منحه وأمثاله من أصحاب المؤهلات المتواضعة ويتصدرون المشهد الثقافي قبلة الحياة حين دعاهم إلى لقاء الرئيس ، وإعادة إنتاج المشهد الأخير لالتفافهم حول حسني مبارك ليلتفوا حول الرئيس مرسي ، ويثبتوا للناس أن وزارة الثقافة وعناصر الحظيرة أقوى من الثورة والثوار ، ولله الأمر من قبل ومن بعد !