الثورة متحررة من حلف الضرورة مع الغرب؟

مطاع صفدي

ربما كان علينا أن نشكر الرئيس أوباما أخيراً أنه ترك لسانه ينطق بحقيقةٍ كان يخفيها دائماً، وهي أن السياسة الأمريكية أرادت لثورة سورية أن تنحرف كلياً عن أهدافها الأصلية، وتتحول إلى مجرد فوضى هدامة أو تصبح هي ضحية هذه الفوضى، ومن ثم يعيش المجتمع السوري كارثةَ النهاية في شتى مناحيه الإنسانية والمادية.

فقد أصبحت حقيقة التعطيل الأمريكي لأي قرار حاسم يضع حداً للتذابح في سورية، أشبه بمسلمة واضحة في عين كل رقيب نزيه، إذ كان يمكن أن يُسجن وحش العنف في قفصٍ ضيق منذ بدايات التفجر الأعمى لفصوله الدامية، كان يمكن أن يُنقذ الشعب العربي السوري من أفظع محنه المعاصرة لو أن هذا الذي يسمّى بالمجتمع الدولي انصاع قليلاً إلى صوت ضميره، لكن سياسة ما يسمّى بالتدخل الدولي لا تتحقق إلا عندما يكون منطق المصالح هو سيد التفكير والتخطيط والتنفيذ، بما يضمن دائماً اختطاف منجزات الشعوب في لحظاتها التاريخية الحاسمة قبل أن تصل إلى وقائعها المنتظرة؛ فإذا كانت روسيا هي المتهمة الأولى بالتعطيل الدبلوماسي، كان يمكن لبقية أبطال المجتمع الدولي الخرافيين أن يبتكروا الطريقة المؤدية بأسرع وقت إلى دحر مؤامرة تهديم سورية، وتحييدها تاريخياً وسياسياً.

أوباما وضع شرطاً لتدخّله أخيراً، هو تحريك الأسلحة الكيماوية من قبل النظام الموشك على الانهيار كآخر وسيلة دفاعية، بمعنى أن قتل آلاف الناس وتشريدهم وتجويع أطفالهم وارتكاب أعنف مجازر التاريخ المعاصر، كان أمراً مباحاً بنظر أوباما ما دام لا يحرك سلاحاً قد يعتبر خطراً فقط على إسرائيل، وليس على الشعب الممنوع من أبسط حقوقه الدفاعية عن ذاته ليس بفعل عدوه المباشر فحسب، ولكن تحت تأثير أبطال المجتمع الدولي، وعلى رأسهم هذا السيد أوباما الذي من أجل أن يكسب أصوات صهاينة أمريكا في الانتخابات القادمة تبرع لشيطان القتل بجولات لا تعد ولا تحصى في القضاء على الأبرياءفالنظام الموشك على الانهيار لم يعد يحارب من يسميهم بالإرهابيين، أصبحت مجتمعات القرى والمدن هي عدوه المباشر، يمطرها بقنابله ليلاً نهاراً، خسارته أمام عشرات أو مئات من الشباب الثائر، يعوّض عنها بالانتقام من الجماهير المسالمة، وتدمير بيوتهم على رؤوس نسائهم وأطفالهم.

إنه بكل بساطة يحقق عملياً هذا الشعار الشيطاني: 'الأسد أو لا أحد'، إنه مقبل على إبادة ملايين من الشعب السوري، وهو لن يتقاعس أبداً عن استخدام أفظع ما لديه من أسلحة الدمار الشامل. لن يستخدمها أبداً ضد حليفه الموضوعي إسرائيل، بل هي معدة فقط للاستهلاك المحلي، أي لابادة الشعب السوري، فلماذا يخاف أوباما أخيراً على حبيبته المدلّلة (دولة الصهاينة)، ما دام النظام قد أخذ على عاتقه اجتثاث الدور التاريخي الأساسي للشام وأهلها في الدفاع عن فلسطين منذ قيام دولة إسرائيل.

سوف يتحرك الغرب أخيراً ببعض التدابير الجريئة التي يطالبه بها الرأي العام في بلاده إزاء الظلم غير المعقول الذي يلحق بالقطر السوري. في أوروبا تظهر حركات الغضب ضد حكامها القادرين على فعل كل شيء، ولكن العاجزين عن فعل أي شيء حقيقي بالنسبة للظلامات الكبرى التي تقع على عاتق الشعوب المعزولة عن كل وسيلة دفاع حقيقية، والتي كان الغرب هو السبب دائماً في جعلها ضعيفة ومستكينة؛ منتصراً لطواغيتها، على حساب آمالها الوطنية والقومية العادلة.

هذه الفئة من الحكام التي حان الوقت لسقوط سلطانها، لكن ساسة الغرب لا يعرفون ماذا يفعلون إزاء هذه الظاهرة المحتومة، فهم واقعون بين المطرقة المتمثلة في تحول التاريخ وسندانها المتمثل بضرورات المصالح الاستعمارية المتجددة دائماً.

دأبت أمريكا على نوعٍ من التدخل السلبي عملياً بمنعها كل مساعدة حقيقية عربية أو إسلامية تُمنح إلى ثوار سورية، ومع ذلك فالكفاح لم يتوقف، وقد اكتشف لذاته طرقاً كثيرة في التزود بما يمكنه من وسائل الدفاع والهجوم الذكي على زبّانية الطاغوت.

كانت سياسة الغرب طيلة هذه الأشهر الدامية تتحدد في عدم الانتهاء من الثورة من جهة، ولكن في تعجيزها عن بلوغ غايتها في التحرر الكامل من جهة أخرى

صار واضحاً أن الهدف كان هو الانتهاء من أساسية الدور السوري في المنطقة، وإغراق البلاد في بحر من الدماء والفوضى، فأمريكا تكرر درس العراق بطريقة أخرى.

أوباما يبدو أكثر ذكاء وحنكة من سابقه بوش، إنه لا يلوث عسكره في الجحيم السوري، بل يترك الناس في هذا البلد يتقاتلون إلى مالا نهاية، حتى تنعدم كل نزعة نحو المقاومة والممانعة الأصليتين البعيدتين عن نفاق المساومة بين أيدي الأنظمة الكاذبة.

بالمقابل صار أمراً محتماً أن تعيد المعارضة النظر في أكبر خطيئة استراتيجية ارتكبتها، وخاصة منها بعض فروعها المغتربة خارج البلد، عندما سلّمت أوراقها إلى هذا الغرب منذ البداية، فهل كانت حقاً مضطرة إلى عقد هذا التحالف الموصوف بالضرورة مع العدو الأول لأي مشروع تغيير شعبي جذري يدخل تاريخ العرب المعاصر، فلم يكن معقولاً أبداً أن يتحالف الحمل مع الذئب وضد الذئب الآخر، ومع ذلك لا يزال بعض هذه المعارضة يعقد آماله العظيمة على تحقق النصر بالاعتماد على أعدائها التاريخيين، فالثورة قد تستعمل الدبلوماسيات أحياناً، وقد تضطر إلى التصالح مع صنف معين من الأعداء ضد صنف آخر أخطر، لكن حرية الشعوب لن يتبرع بها حراس السجون الكبيرة لضحاياهم مجاناً.

كان يمكن للغرب أن يُوقف هذا العنف المجنون قبل أن يقضي على هذا السيل العارم من ضحاياه، وهذه حقيقة بسيطة لا تحتاج إلى براهين استخبارية، فقد اختار الغرب استراتيجية أن يستهلك الشعب السوري ذاته، وأن يقنن الغرب مساعداتِه، حتى يتفجر الجنون الدموي في أعنف فصوله

وهكذا كان إلى درجة أن الشعب قد يصل به الأمر إلى الكفر بكل شيء حوله. ومع ذلك يحدث العكس، إذ تضاعف إيمانه بقدرته على إنتاج حريته بيده، بلحمه ودمه. إنها الثورة العربية الوحيدة اليوم التي تستمد مشروعيتها الكلية من صميم نضالها اليومي، من هذه القدرة العجيبة على الصمود والتضحية. فالنظام هو الذي يتهرّأ داخلياً، في حين أن الثورة تتجذر روحياً ومادياً في حياة الشعب وفي واقعه المؤلم، لكنه الواقع الشامخ بكرامة الإنسان والعدالة.

يجيء الوسيط الجديد الأخضر الإبراهيمي إلى الساحة متهيباً مما سوف يصادفه من الأبواب الموصدة سلفاً في وجهه، لعله يحصر جهده الآن في محاولة ابتكار هدنةٍ ما يمكنها أن تفرض قانونها الخاص على الطرف الظالم ليكفّ عن مسلسل قتل الناس الأبرياء على الأقل. هل يمكنه حقاً أن يُوقف هذا الوحش عن استخدام أنيابه في نهش اللحم الحي؟

ذلك هو السؤال الأصعب، فليس ثمة هدف عاجل مثل المحاولة الجادة لمنع القتل، ماذا يتبقّى لذلك الوحش من وسائله إن تمَّ حرمانه من دباباته ومدافعه. فهذا الوسيط الجديد تسبقه تجاربه الكثيرة الناجحة في فضّ معضلات الحروب الأهلية وأشباهها، ولكن يشعر أنه ربما يُصادف أكبرها وأعقدها حيال الأزمة السورية الراهنة، لعل ضميره الإنساني هو الذي يحركه رغم وعيه الكامل بالصعوبات المنتظرة.

لا يمكننا إلا أن نشجعه، آملين أن تكون له القدرة على ابتكار الحلول، وأهمها ولا شك، هو تحييد عناصر الشر الأولى القائدة لمراحل العنف الراهن. ذلك أن النظام وصل إلى الدرجة الأدنى من ثقته بامكانية الاستمرار مع بعض من تبقى من عقلائه، الذين يفكرون جدياً بابتكار وسيلة لانقاذ ما يتوفر من أمنهم الشخصي. وربما أصبح الحل السلمي شرطاً ضرورياً حتى لبقايا هذا النظام كيما يتجنب النهاية الأبشع.

سورية اليوم لا تريد انتقاماً بقدر ما هي عازمة على تدمير سجونها بالخلاص من مركّب الاستبداد/ الفساد، وثورتها هي محاولةٌ مشروعة لانقاذ إنسانيتها المسحوقة، همها الأخير هو توفير ما أمكنها من إمكانيات شعبها من أجل إعادة بناء ذاتها حرة كريمة عند نفسها أولاً، وذلك هدف لم يعد بعيداً عن الظروف الحالية ما دامت الثورة تعتمد أساساً على قوتها الذاتية، ولن تسمح للغرب أو سواه أن يستغل انتصاراتها القادمة، فإنها هي الأوْلى أن تكون حرة في سلامها القادم كما كانت حرة وقوية خلال نضالها العظيم والدائم.

' مفكر عربي مقيم في باريس