سورية... والحزن الأكبر

ناديا مظفر سلطان

حزن كبير لأجل سورية  ران على قلوب الناس ، على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم  ، حزن صادق ، عميق مس  كل الشارع  الكندي ، فما تكلمت مع امرئ-  كان لا يعلم بالأمس أين هي سورية على الخارطة - إلا و أبدى حزنه على الدم السوري ، دم الأبرياء يراق رخيصا ، فلا أخوة  الاسلام  انتصرت له ، ولا أواصر العروبة  فزعت لأجله ، ولا شراكة  الانتماء الآدمي شفعت فيه ، واكتفى العالم بمتابعة  مسلسل الآكشن السوري على الفضائيات ، وهو يقرمش البوب كورن ، ويحتسي الكولا ، ثم يطلق بين الحين والآخر الصرخات المدوية  منددا حينا ، وشاجبا حينا آخر.. ثم يغفو على  طاولة المباحثات!.

الحزن الكبير لأجل سورية لدى " بعض السوريين"  كان  فقط أسفا لما آلت إليه حال البلاد ، إذ استبدلت لباس الجوع والخوف ، بحلل الماضي القشيبة من الأمن والاطمئنان.

عبارة مكررة قرعت سمعي  هنا وهناك ، من سوريين كندا ، ومن سوريين سورية:

 "كانت المرأة منا تمشي  في أي ساعة من ليل أو نهار فلا تخشى على نفسها من شيء"

 "سقى الله أيام الأمن والاطمئنان قبيل الثورة فقد كان عيشنا رغدا "

 "يا للأسف على سورية ! ، و يا للحزن على البلاد التي ضاعت ولن تعود!".

أما بالنسبة لي فقد كان حزني على سورية قديما ، لم يبدأ عند أول قطرة دم سالت من الجسد السوري في آذار من العام الفائت ، وإنما كان قبل ذلك بأعوام بعيدة ، ففي كل زيارة لسورية  كنت أعود بقلب مثقل بالأسى والأحزان ،  كنت أرى  جسدا عليلا وراء المظهر القشيب الذي يتغنى به الناس ، إذ كنت أشعر" بنزيفها"  الداخلي ، ولعله  أدهى وأمر من نزيفها العلني  اليوم .

كان الافلاس الأخلاقي المتفشي بين الناس يشعرني بالغربة والضياع ، غربة عن الوطن ، وضياع في عالم اللا انتماء.

في عام 2005 كتبت سلسلة من المقالات باسم " العطر الضائع " بعد زيارة لسوريا دامت شهرين ونصف ، خلال زيارتي  كانت عبارة "عطر فمك بالصلاة على النبي"،  تطالعني أينما حللت وحيثما ذهبت ، على حيطان الدكاكين ، في سيارات التاكسي ، كنت أقرأها فقط ، ولا أشم عطرها في زحمة الانحطاط الخلقي ، والافلاس الديني الذي آل إليه حال القوم هناك رغم مظاهر الصحوة الدينية التي تشدق بها علماء المسلمين .

 

في ذلك العام  قررت أن أعيد افتتاح مكتبي الهندسي ، ولكن لدى وصولي المكان  فوجئت أنه أصبح مستقرا لقمامة الحي ، ، حاولت استيعاب الأمر والتجاوز عنه ، باعتبار أن المكتب "مهجور" وأنني صاحبته "مهاجرة "  فاستعنت ببعض عمال البناء في الجوار لرفع القمامة لقاء أجر .

في اليوم التالي عدت إلى المكتب ، لأفاجأ بأكوام جديدة من القمامة ، منعتني حتى من الوصول إلى الباب... فعدت أيضا إلى الاستعانة ببعض العمال لرفعها... ولما كان صباح اليوم الثالث طالعتني أكوام أخرى ، كان واضحا أنها وضعت عمدا لإغاظتي .

انسحبت إلى داري بصمت ، وأنا أكتم غيظا  يكاد يتفجر من ضلوعي ، كان  "حسن" يقف بانتظاري عند باب الشقة ، وحسن، وهو من الطائفة العلوية ، كان يعمل سائقا قبل أن أهاجر ، وقد أسديت له صنيعا ذات يوم فلم ينس المعروف، ولم يتأخر مرة في عرض خدماته، كلما عرف أنني في زيارة للوطن .

حكيت ل حسن ما تم من أمر جيراني ، فقال : أذهب معك إن شئت في المرة القادمة .

في اليوم الرابع ذهبت برفقة حسن إلى المكتب ، فطالعتنا أكياس من القمامة ، حشرت عمدا أمام البوابة ، قام حسن بحملها  وابعادها حتى تمكنت من الدخول ، ثم وقف ينتظرني في الخارج .

 كنت أبحث عن بعض الأوراق ، لما  تناهى إلى سمعي صوت حسن وهو يتحدث إلى بعض الجيران بطريقة ودية عن أدب الجوار، وحق الجار على الجار ، خاصة ، إذا كان مغتربا مثل "المهندسة"... ارتفع صوت الجار هازئا بالمغتربين عامة  ، وبي "خاصة" ،مع أنني لا أعرفه ، ولم أقابله قط في حياتي ، بل أنه هبط إلى درك أسفل من الألفاظ النابية والعبارات البذيئة !!!

شعرت بالفزع من هذا الهجوم المباغت الوضيع  الذي تعرضت له دون مبرر، علما  بأن الرجل كان كمعظم سكان المبنى ممن يرتادون الجامع بانتظام لأداء الصلوات الخمس! أخلدت إلى  مكاني للحظات مذهولة ،  ثم ما لبث أن استحال فزعي ، أسفا وحزنا بالغين ،فهتفت لنفسي بحسرة " وا أسفاه على "الوطن"!

في اليوم التالي طرق حسن الباب باكرا ، كان متهلل الأسارير ، مستبشرا، هتف بي : ألا تودين الذهاب إلى المكتب؟

أجبته بحزم : لا ، لا .. ، حسبي ما تعرضت له البارحة.

أجاب وابتسامة عريضة  تضيء وجهه: لا أحسبك قد عثرت على كل الأوراق التي تبغيها ..فلنذهب الآن.

كان المكان أمام بوابة المكتب ، يشع بالنظافة وكأنه غسل للتو بالماء والصابون المعطر!!! ، وبينما كنت أهم بفتح الباب برز "جار الأمس "، استقل سيارته وانطلق على عجل وهو يتحاشى النظر باتجاهي!!!.

بعد خطاب الأمس الهابط ، شعر حسن بالحنق والمهانة ، فذهب لتوه إلى أحد أقربائه ، وهو "عنصر أمن" لا يتجاوز العشرين من عمره  ،فطلب معونته لكف الأذى عني ، فما كان من الفتى إلا أن طرق أبواب البناية كلها الواحد تلو الآخر ، وكلما فتح الباب ، كان  يتمايل  بخصره ، بمهارة راقصة محترفة ، مشيرا إلى مسدس يستقر على جنبه ، وهو يوصي بالتزام الأدب مع "المهندسة المغتربة " ، وإلا...؟؟!!!!

هذه المسرحية الرخيصة ،مع الأسف ، هي التي أنقذتني من براثن  "الاستئساد" ، والتلويح بالمسدس ،كان هو الخاتم السحري الذي ضمن "السلام والأمان" لما تبقى من زيارتي  في ربوع الوطن الأم!!!

 

في علم النفس أن الانسان يفقد كل معاني الانسانية  مع طول الذل والهوان ، بل إنه يدمن العيش تحت سوط فرعون، فإذا رفع عنه السوط  ، سيكون فرعونا آخر حتى يأتي من يسحقه من جديد .

 وفي القرآن( الكتاب الذي أوحي إلى محمد ، صلى الله عليه وسلم ) جاء ذكر موسى وقصته مائة وخمس وأربعين مرة بينما ذكر اسم محمد أربع مرات فقط ..وقوم موسى الذين تجرعوا كأس الذل طويلا عرفوا أن حلمهم لن يتحقق بالفرات إلى النيل إلا بسقيا أهلها من ذات الكأس التي طالما نهلوا منها،  فالمثل يقول اسأل مجرب ولا تسأل حكيم ،  ولا بد من صداقة وطيدة تربط  بين الديكتاتور وبين هؤلاء القوم لضمان حدود آمنة لن يعكر صفوها أبدا شعب شرب كأس الذل مترعة.

خطوط الذل والهوان كنت أراها  مرسومة بإتقان على وجه موظف المطار ، منذ أن تفتح أبواب الطائرة ، بعد أن تحط على أرض الوطن ، وجه شاحب يشكو قهرا مكتوما ، وذلا قديما ، وجه متأهب  ومتحفز –في الوقت ذاته- لإذلال وسحق كل من أمامه ، حالما تسنح له الفرصة .

 "قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض"

السر إذن في الأربعين إنه الفترة الكافية لولادة جيل جديد يكسر القيد ويتمرد على قيد فرعون  بعد سنين  التيه والضياع

في لقاء تلفزيوني مع الشاب "عبد القادر الصالح" ، قائد العمليات الميدانية في لواء التوحيد تعرفت إلى هذا الجيل للمرة الأولى ،  فرأيت وجها  لم أعرفه من قبل  ، وسمعت حديثا لم أعهده قط .

وجها أبيا على الذل  ،و حديثا هادئا  متزنا  ، مفعما بالتقوى، مليئا بالثقة ..أعاد لي الثقة بقومي ووطني الذي تاه طويلا عني وتهت عنه .

في نهاية اللقاء تسربت إلي رائحة عطر ضاع عني أربعين عاما  "عطر الصلاة على النبي"  ، الصادقة الأصيلة ، تسربت إلي رغم رائحة الدم والبارود التي سكنت  بسورية .

لقد تقلصت مساحة الأحزان التي عششت بين ضلوعي لأجل وطني الذي مات يوما بموته الأخلاقي ، وبعث اليوم إلى الحياة!! ،  فالمصيبة الحقيقية لا تكون إلا بالدين  ، و شهداؤنا أحياء عند ربهم  يرزقون ، ولا يشاك امرئ بشوكة إلا وله أجر،  فكيف بمن اعتقل وعذب واغتصبت ، ومن أرغم على العيش في العراء لاجئا  ، يعاني من حر الصيف وبرد الشتاء.. ،ولكن ما زال قلبي يتفطر حزنا على الطفولة السورية الذبيحة  .

  وإذ قد عثرت على وجه "الجيل الجديد المعافى من الذل " في ميدان القتال ، فأنا لازلت أبحث عن شبيه له "مخلص وأصيل " بين صفوف المعارضة ولا أجده ،  بل لعلي ألمح وجوها  لمنافقين وانتهازيين ووصوليين يتسللون لواذا ، لامتطاء صهوة الحدث السوري  ، فإن كان لهم ما أرادوا ، سيكون حزني لأجل سورية كبيرا، بل أكبر من كل الحدود.