داريا.. والبجعة البيضاء

مخلص برزق*

[email protected]

كنت طفلاً صغيراً ولم أعتد من والدي ذلك الجفاء

ينزعني من سريري الدافئ ومن بين أحضان أمي ثم يلقي بي إلى المجهول ويتركني!!

شعور رهيب تملكني وأنا أعاين تجربة جديدة لم يسبق لي أن مررت بها في تاريخ حياتي (القصير جداً حينها).

أناس أغراب لم يسبق لي رؤيتهم أو التعامل معهم يحيطون بي من كل جانب.

امرأة غريبة تسوقني سوقاً ورغماً عني إلى غرفة كبيرة وبها مقاعد كثيرة ويملأها صراخ أطفال مذهولون مثلي.

أجلستني على مقعد خشبي إلى جانب طفل لا أذكر أنني قمت بالتعرف إليه أو حاولت سبر مشاعره وأنا في حالة انعدام الجاذبية تلك.

قتلني الهم والغم وأرهقني البكاء ولم أعي شيئاً مما كانت تقوله تلك المرأة التي ظلت واقفة في صدر تلك الغرفة التي كنت أراها كبيرة جداً ومكتظة جداً وشاحبة جداً.

فجأة قرعت أجراس غطت على صوت النحيب المكتوم لي ولرفقائي وانقطع معها حديث تلك المرأة ثم أمرتنا بالخروج.. إلى أين؟

همت على وجهي وأنا لا أدري ما أفعل وإلى أين أذهب؟ ولوهلة حسبت أنني لن أرى وجه أمي بعد ذلك اليوم وأنني سأقضي هما وغما..

فجأة.. ساقتني رجلاي الضعيفتان.. أو أن التيار الهادر للأطفال ساقني معه إلى مكان عجيب .. رأيت فيه ما أخذ بألبابي وأشغلني عن همومي.. رأيت فيما يرى الطفل الحزين مجموعة من البط والبجع الأبيض تسبح في بركة جميلة فاستوقفني ذلك الجمال الأخاذ وتلك الروعة في خلق ربي جلّ في علاه..

اعتدت بعدها أن أنزوي إلى تلك البركة وأقضي وقتي متأملاً لتلك الكائنات الجميلة حتى تقرع الأجراس وأعود للغرفة الكبيرة الشاحبة..

شريط من الذكريات انتزعته تلك الصورة من أعماق تلافيف دماغي المرهق من كثرة ما يحويه من تفاصيل لا أملك مسحها أو الاحتفاظ بها - وسبحان ربي وخالقي ومصوري – غير أنها ربطت تلك الصورة بتلك الصور المفجعة لضحايا المجزرة البشعة لأوباش هذا العصر ومجرميه..

مرّ بي ذلك المشهد لأول يوم لي في "روضة الأمناء" بتفاصيله الدقيقة لحظة رؤيتي لصورة البجع الأبيض وحدثتني نفسي باكية منتحبة: "يا للأسى على أطفال كأنهم الملائكة الأطهار في داريا والشام.. حرمتهم اليد الآثمة المجرمة من رؤية البجعة البيضاء وأطفالها الصغار.. ألا تباً للقتلة ما أقساهم وما أبشع فعلهم وصنيعهم..

أما أنتم يا أطفال سورية.. فانعموا برؤية البجع الأبيض هناك فوق الغمام حيث تنعمون برعاية المولى الرحمن جوار خليله عليه السلام.. وثقوا بأن أولئك الذين لم تعرف قلوبهم إلا السواد لن يبقوا طويلاً على الأرض فهي تمقتهم والسماء تبغضهم والحجر والشجر وكل ما في الكون بكل أطياره وأوزه وبجعه الأبيض الجميل يكرههم.. وقبل كل ذلك فإن دماءكم تلعنهم وعما قليل سترديهم.

               

*  كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.