عرس الشهادة من جديد

الجزء العاشر من يوميات بلا أسرار في المخيمات

نسيبة بحرو

وتعود الخنساء بحكاية الصمود التي لم تنته .. تعود بتلك الروح المستبشرة والنفس المجاهدة التي شحذت مسيرة حياتها بالصبر، منذ أن ترملت في الثمانينيات.. إلى الثورة السورية المباركة واستشهاد أبنائها الأبرار، مروراً بثلاثين عاماً من معاناة المشقة والعذاب تحت نقمة النظام السوري ، ووصولاً إلى التهجير القسري عن الوطن الى المخيمات .. تعود اليوم إلى ادلب بثبات الجبال وقوة الأبطال لتزف ابنها الرابع في يومه الأطهر وقد نال الشهادة بفعل عصابات الأسد المجرمة ، تعود لترثي حبيبها المجاهد الثائر(علي ) كما رثت أخوته قبله بكل احتساب ورضى وفخر .. وياله من رثاء عز نظيره في هذا الزمن !!

تخاطب جثمانه الطاهرما بين كلمات وقبلات ( هذا طريقنا يا ابني ولقد مضينا به ، وباذن الله سنحرر سوريا من آل الأسد ، لقد ربيتكم لهذا الموقف ولتجاهدوا كوالدكم فجاهدتم ثلاثين عاماً ثم رحلتم اليه ، هذا طريق الأبطال ولن أحيد عنه فإما النصر وإما الشهادة وسألقاكم باذن الله في الفردوس الأعلى ) .. ثم تواسي أطفاله المكسورين قهراً والملتفين حوله في لوعة وبكاء ، وتعدهم بيوم يستردون به حق والدهم وذويهم من القتلة الفجار .. ويتخلل هذا المشهد تكبيرات مجلجلة ممن قد شهدوا الحدث فاستمدوا العزم من كلماتها المؤمنة ومن قوة نبراتها وهيبة سكناتها ..

 إن فقيدها الغالي هو مشروع الشهيد ، وهو جزء متمم لمشروع الأبناء الشهداء الذي خططت له وسعت في سبيله ونالت المنى بتحقيقه .. وهي بموقفها البطولي لم تسمح لأحد أن يقدم لها العزاء والسلوان ، في حين أنها ومن قلب المحنة قدمت للسامعين والحاضرين شفاء الروح ، و انتقلت بهم من واقع أثقله الألم والأسى إلى يوم عز وشرف وفداء ..

وتمضي الخنساء لتكمل مشوار أبنائها في الجهاد ، فتترقب كل خطوة ومبادرة من الثوار وتحفها بالتشجيع والدعاء .. فمن أجمل المشاهد التي تثلج القلب رؤيتها بعد زفاف ابنها الشهيد بفترة وجيزة تعتلي بكبرياء سيارة الغنائم التي اكتسبها الجيش الحر ، وتحمد الله سائلة اياه أن يتمم ذلك بالغنيمة الكبرى للإسلام بزوال وهلاك الأسد ومن ساعده ووالاه ..

ما أعظم الخنساء وقد حملت أمانة تربية الأبناء وحدها فأدتها حقها بما غرست بهم من قيم الكرامة والشجاعة والعزة ، فثاروا بتلك المباديء ضد الكفر والطغيان حتى ارتقوا الى الشهادة التي هي أعلى الدرجات ولا أسمى .. ورغم ذلك فإن دورها التربوي لم يقف هنا ، فهي قد أصبحت اليوم وغداً وبعد غد الأم المربية لجيل من الأطفال والشباب والفتيات ، حيث علمتهم بالكلمة والمواقف المشرفة الخالدة بطولة الأبطال ومعنى الصبر والتضحية والجهاد في سبيل الله .. وهي بحكاية مسيرتها ، الأصدق من أي رواية أو مسلسل في تجسيد صورة المرأة القوية الفاضلة والمؤمنة حق الايمان كما كانت عليه الصحابيات في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ..

كتبت عنها في مقال سابق بعنوان ( الخنساء وحبة الجوز ) ، بيد أن صمودها اليومي المستدام وشموخها النادر لحظة مصابها بشهيدها الرابع أعادني للكتابة عنها .. ومع انسانة عظيمة تُستلهم من مواقفها الحكم والعبر ويُضرب بصبرها المثل ، أحسب أن قلمي سيستمد من نبضها في كل حين ..