امتحانُ قبولٍ في الجوقة الوطنية أو في حب الوطن

بسيخُوَطني

امتحانُ قبولٍ في الجوقة الوطنية

أو في حب الوطن

جواد بولس

من وحي تجربة نجاحات معاهد تدريب ناشئتنا على اجتياز امتحانات البسيخومتري، لجأت إلى فكرة مقالي هذا. تلك المعاهد زوَّدت شبابنا بثقة وأدوات علمية ذللوا بها ما حاولت إسرائيل وضعَه كعقبات في طريق الحلم وبسمات الأمل.

حياتنا أصبحت معقَّدة، كأقلية عربية في دولة أكثريتها يهودية تحسَبُنا أعداءً وخونة وأغرابًا نقيم على شرط وموعد مع الشرق، من جهة، وكمجتمع فقد كثيرًا من بوصلاته "الوطنية" وتاه بين تديّن مزيَّفٍ زاحف يقضي على كل ملجأ وبيت ليبقي بيوت الوعّاظ والكهنة بيوتًا للأمان الواهم، من جهة ثانية، وعائلية تفكّك ما حيك من عرى، وجهل يعمي وبطون تشقى وليس لجميعها مراع تقي من جوع وشيوخ تسترها من شظف عيش ومهانة.

حياتنا أصبحت معقَّدة وكفيلة بأن تطرح أمامنا كل يوم معضلة وسؤال. في الماضي، في زمن الجرح الأول، كانت الألوان طيفًا واليوم كل لون أطياف. في الماضي، كان العميل من يسلّم معلّمًا في قرية عزلاء منسية تجرَّأ على قراءة "الاتحاد الشيوعية" فيكون خراب البيت والمنفى، واليوم ما العمالة وكيف تكون الخيانات؟!.

هي محاولة أقوم بها محاولًا رصد عينات مما طرحته طاحونة الحياة من حَب عصي ومعاضل وربما تستدعي الحالة تأسيس معهد على غرار معاهد تدريب البسيخومتري لكنّها، في حالتنا، ستكون معاهد "بسيخوَطني" تهدف إلى تعريف الأجيال بتعقيدات الواقع وربما تزويدهم ببعض من ثقة ونور يكشف لهم أين الوطن يكون والوطنية وأين وكيف يمارس كثيرون ويبرعون في علم اسمه "الوتوتنية".

وبعد المقدمة إليكم مجموعة من الأمثلة التي تصح أسئلةً في امتحان "البسيخوطني" الأول.

لقد نشأ أبناء جيلي على قناعة أرساها من قاد مجتمعنا بعد النكبة تحظر التعاطي مع عقارات وممتلكات تركها اللاجئون والمهجرون من أبناء شعبنا، الذين ما زالوا يعيشون على ميعاد مع العودة ومفاتيح بيوتهم تعلَّق في القلب ووسائد لحلم وأمل. من عارض الوصية والفرض اعتبر خارجًا عن الصف الوطني ومتعاونًا مع إسرائيل ومحاولاتها القضاء على حق العودة وطمسها لشواهد التاريخ والنكبة. فأملاك اللاجئين لا تُقرَب ولا يتاجر العربي "بدم" وحلم أخيه العربي.

على ما يبدو تغيّرت معايير وانقلبت قواعد والوطنية تلك اندثرت واستبدلتها وطنية جديدة "خلنج" تفيدنا، كما نادى المنادي، أن جمعية وطنية ناشطة بيننا استطاعت أن تنقذ، بعملية شبه فدائية، عقارين هامين في مدينة حيفا كانا في حيازة مؤسسة يهودية .

القضية في منتهى البساطة والوضوح، فليس يعنيني هنا من موَّل الصفقة (وبرأيي لا فضل لمال قطري على مال فرنسي مثلًا كما حاول البعض إيهامنا!) ولا أي حزب عربي سيستفيد من هذه الصفقة (فتحويل تلك المباني لمركز ثقافي يخدم جميع من يرغب هو عمل هام وإيجابي) ولكن يستفزني صمت هيئاتنا الشعبية الوطنية (لجنة المهجرين، الإخوة في أبناء البلد، قادة الأحزاب العربية والإسلامية) إزاء هذه الصفقة. وسؤالي لكم، هل لنا، نحن المواطنين البسطاء، أن نفهم أن الوطن والوطنيين أبطلوا الحظرَ القائم؟، ومن اليوم كل تاجر وقادر وشاطر يستطيع "إنقاذ" و"تخليص" عقار، صاحبه لاجئ، من أيدي شاغله اليهودي فليفعل وسيكون فعله وطنيًا بامتياز؟. فالأرض، كما أفادنا الشارون، تعود ملكيتها لعائلتين فلسطينيتين هجّرتا في عام النكبة (عائلة "المر" وعائلة "الأبيض"). والأرض اغتصبها الناكبون وأقاموا عليها مبنى شغلته حركة "مكابي" الصهيونية، واليوم، في صفقة تجارية عادية، نجحت تلك الجمعية وبمشقة عارمة، كما صرحوا، أن تنقذها من الغاصبين! يبقى السؤال، يا سادة، إن قبلنا، مبدئيًا، بإمكانية التعاطي مع أملاك اللاجئين الفلسطينيين على أساس تجاري صرف فماذا سيبقى من حلمهم والوعد؟ فماذا لو بعد حين قررت هذه الجمعية، لأي سبب كان، بيع هذه العقارات، واستطاع "موشي" شراءها حسب القانون وأصول السوق، فبأي إدعاء سيجابَه هذا "الموشي" وبأي حق؟ وماذا سيتبقى من حق العودة لعائلة المر وعائلة الأبيض؟ هل سيعوّضهم أصحاب الحناجر ودفاتر الشيكات بما يتلاءم وحجم المصيبة؟! باختصار المختصر، هل يمكن التعاطي، من اليوم فصاعدًا، مع أملاك الغائبين على أنها عقارات كباقي العقارات، الخاضعة لقوانين السوق العادية ومن باب أولى يصفّق لصفقة شراء (بتمويل قطري أو آخر) إن كان الشاري (حاليًا) عربيًا والبائع (حاليًا) يهوديًا؟

وما دمنا في قصة هزيمة "مكابي" وخسارتها قلعة من قلاعها في مدينة حيفا التي تحتفل وكل صغير وكبير من أبناء شعبنا الفلسطيني، كما فهمنا، بما زُفّ لها من بشرى وخبر، فلأثقل وأسأل ماذا عن فرق كرة القدم في قرانا المنتسبة "لمكابي" و"هبوعيل" و"بيتار"؟ هل على هذه الفرق إعلان انفصالها وطلاقها من هذه الأمومة التي لم تكن يومًا حنونة؟ وما رأي الوطن وأصحاب البوصلة والمساطر؟

وفي ذات السياق نسأل، ماذا مع مئات الأطباء والممرضين والموظفين في صناديق المرضى التابعة لهذه المؤسسات الصهيونية الخبيثة؟ هل يُسمح للمناضلين الوطنيين ومن يؤمنون طبعًا بحق العودة، أن يبقوا جنودًا في صفوفها، فحياتنا هنا معقدة والجوع كافر والسترة واجبٌ ودين، حتى وان كان الحليب يقطر من ثديين مكابيين.

وفي ذات السياق نسأل، تحرير مبنى شغلته "مكابي" ذات يوم يعد نصرًا فلماذا نقاتل في قرانا ونركض وراء مؤسسة "هبايس" لتبني لنا قاعات ومكتبات وغيرها وهي التي أموالها من "رجس" وتشترط أن يبقى اسمها لامعًا يزين واجهات تلك المباني. "هبايس" هذه هي مؤسسة صهيونية غنية بامتياز، فماذا تقول البوصلة هنا؟ وإن بنت هل يحق للعربي استعمال هذا المبنى وهو المقام من أموال باطلة؟

نقلت في هذه العجالة عينات من بيدر حياتنا المعقد/البسيط. لا أزايد على أحد لكنّ المزايدة دائمًا استفزتني وأقلقتني، لأنّها كانت وما زالت من المعوّقات الأساسية التي عطّلت مسيرتنا في هذه الدولة وفي هذا الواقع الشائك الأليم.

لا أزايد على أحد ولكن لا ينفردَنَّ أحد ببوصلة عجيبة وبفانوس الوطن السحري، ولذا، وفي سبيل المكاشفة، سأمضي وسأعرض لبعض من مآسينا ومعاصينا فحياتنا صعبة، معقَّدة وبسيطة وهي لذلك بحاجة دائمة لمعاهد تعنى بتدريبات مُغنية على "البسيخُوَطني" علَّنا نجد الدواء. فإلى لقاء قادم مع فصل آخر من فصول الحياة.