المواهب العربية في طمس الذات العربية

المواهب العربية في طمس الذات العربية

رغداء زيدان/سوريا

[email protected]

تابعت كما تابع كثير غيري تلك التعليقات التي تناولت الانتخابات المصرية وفوز الدكتور محمد مرسي بها. ولم أستغرب ما ورد فيها, كما لم أستغرب تلك التحليلات التي راحت تدرس نتائج وحيثيات ومستقبل وسلبيات وإيجابيات وصوله للسلطة, ذلك أننا تعودنا في زمن الاتصالات المفتوح أن يدلي كل برأيه, لدرجة حدوث (تخمة) مقالات وتحليلات ودراسات, عادة تكون متشابهة متماثلة, وتصب بمجملها في ناحية تكوين بديهيات أو مسلمات عامة يكاد الخروج عنها يصبح نوعاً من العبث الذي لا طائل من ورائه.

الملاحظ أن معظم التحليلات المماثلة تضع أمام القارئ مجموعة من النقاط لا تلتفت في الغالب للواقع المعاش, بل هي تردد تخوفات أو تطمينات تمس المحيط الخارجي أكثر من كونها تلامس بالفعل حياة المواطن وخصوصية المجتمع الذي مازال يعاني من التهميش و(المركون) جانباً, وكأن مهمة هذا الرئيس هو إرضاء التيارات المختلفة, التي يكون رضاؤها في الغالب صورة لرضى من يدعمها من دول النفوذ والسيطرة, لذلك فإن هذا القادم الجديد لكرسي الحكم وُضع تحت مكبر فاحص لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أظهرها وعرضها كمادة دسمة لوسائل الاتصال التي تسعى لجذب الجمهور.

ولعل زوجة الرئيس مرسي السيدة نجلاء محمود استحوذت على اهتمام خاص, ليس لكونها زوجة الرئيس الجديد فقط, بل لكونها امرأة محجبة, صورتها لا تختلف عن صورة كثير من نساء مصر اللواتي في مثل سنها, وتعطي انطباعاً بالبساطة والتواضع, وأنها بالفعل (بنت بلد)!.

بعض التعليقات التي تناولت زوجة الرئيس كانت تعبيراً عن حالة مَرَضية في مجتمعاتنا العربية, حيث وجدت في صورتها وبساطتها المعبرة عن مجتمعها تناقضاً مع ما يتطلبه (البريستيج) الرئاسي, فهناك من استنكر حجابها وشكلها البلدي (ولا ننسى أن تعبر (بلدي) هو تعبر استحقاري, يستخدمه المستلبون في تعبراتهم الغبية في الوصف, وكأنهم بلباسهم وأشكالهم تخلصوا من هذا السمة, سمة الانتماء للبلد التي يعيشون فيه ويحملون جنسيته!).

وهناك من تساءل كيف ستمثل مصر في المحافل الدولية؟, وكيف ستستقبل زوجات رؤوساء العالم المتحضر بشكلها المتواضع هذا؟!

وهذا الربط بين اللباس والتقدم أو التخلف هو نوع من العته الفكري, وصل إلينا عبر مرض استلابي أصاب كثيراً من (المتنورين) الذين حكموا على أن الحجاب ليس فقط قطعة قماش تلبسها النساء إعلاناً بالالتزام الديني, بل هو حجاب للعقل والفكر, مانع من التحضر. وسبحان الله, رغم أن هؤلاء يأخذون دور المدافعين عن المرأة تراهم أكثر من يشتمها ويحتقرها ويستغبيها, ويصنفها تصنيفات جائرة, استعلائية, لا تثق باختيارها, ولا بقوتها وقدرتها على الدفاع عن نفسها, ويصمونها بالتخلف والضعف والرجعية.

وإذا كانت مجموعة التعليقات هذه انطلقت من منطلق استحقاري للشكل (البلدي) الذي عليه معظم نساء مصر, فإن هناك تعليقات أخرى لا تقل غباء عن الأولى حتى وإن اختلف المنطلق, تلك التعليقات التي طالبت زوجة الرئيس بأن تكون ذات مظهر مناسب لأنها المرأة الأولى في مصر, وبالطبع فإن المظهر المناسب برأيهم هو المظهر الذي يُظهر تلك المرأة بمظهر أعلى وأرقى وأغنى وأكثر تحضراً وفق المعايير الاستلابية, والتي لا تطلب نزع الحجاب, ولكنها تطلب تغييره ليتكيف مع خطوط الموضة العالمية!, وهؤلاء برأيي لا يقلون غباء عن سابقيهم, ويعانون من عقدة النقص ذاتها, وإن كان الفريق الأول قد أعلن صراحة كرهه للحجاب ووجوب التخلي عنه لأنه رمز تخلف ورجعية, فإن هذا الفريق مازال يعاني من (ضغط) إيمانه بوجوب الحجاب رغم شعوره بالضيق منه, لكنه يعمل جاهداً على وضع لمسات (تجميلية) للحجاب حتى يصبح مقبولاً.

وهنا أريد للقارئ أن يسأل نفسه, متى صار الحجاب مكروهاً في مجتمعاتنا, وقد كانت أمهاتنا يلبسنه على مر العصور, وكانت صورتهن به ملهمة للفنانين والرسامين والشعراء؟ وما هي الأسباب التي غيّرت النظرة إليه والتعامل معه؟ وسأترك الإجابة للقارئ الفطن الذي سيعرف أن أهم أسباب ذلك هو تغير معايير الجمال, والتي خضعت للنموذج الاستلابي المسيطر.

أما التعليقات الأخرى التي رأت في زوجة الرئيس صورة جميلة معبرة عن أمهاتنا ونسائنا وأنها (مننا) كما عبّرت إحداهن, فإنها تبقى متوارية وراء مشاعر فطرية, صحيحة, ترى أن المفروض بزوجة الرئيس أن تكون (منا) و(مثلنا) وليست رسمة أو صورة متميزة عنا.

هناك ظاهرة غالبة على بلادنا العربية, وهي ظاهرة محاكاة نموذج غريب عن خصائصنا وثقافتنا, مما يدل على نقص في الثقة بالنفس, واحتقار لما عندنا. إنها محاكاة لنموذج مسيطر, هو النموذج الأمريكي بشكل خاص, ولن أقول النموذج الغربي, لأن الغرب ليس صورة واحدة, ولكن المواهب العربية تختص بصورة أساسية في محاكاة النموذج الأمريكي.

وأستخدم لفظة (محاكاة) وليس لفظ (تقليد) لأن المحاكاة تعني رسم ذات الصورة بكل تفاصيلها, بينما التقليد يعني محاولة السير على طريق المقلَّد, مما لا يعني التتبع الحرفي, لكن يعني أخذ الأسلوب والطريقة. والاختلاف واضح بين الدلالتين, فالمواهب العربية لا تقلد النموذج الأمريكي بل تحاكيه. 

وللتوضيح سأستشهد بأحد البرامج المنوعة الذي تبثه إحدى الفضائيات والذي يختص بعرض المواهب العربية, هذا البرنامج المختص بالمواهب العربية لا يحمل اسماً عربياً, بل إنه يحمل اسماً أجنبياً, وأعتذر للقراء عن عدم إيراده كوني لا أعرف كتابته بشكل صحيح لأن معلوماتي باللغة الإنكليزية ضحلة جداً (أتوقع نظرة اشمئزاز من بعض القراء, وأوووووه استنكارية طويلة لجهلي المخزي باللغة الأجنبية التي صار تعلمها واستخدامها رمزاً للتحضر والتقدم!)

المهم أن هذا البرنامج يعرض مجموعة من المواهب تشترك بسمة عامة وهي أنها مواهب ليست عربية!, إنها مواهب أمريكية يقوم بها عرب, فالمغنون يغنون أغان أمريكية (ولجنة الحكم والجمهور يُطربون على تلك الأغاني ويعطون صرخات التشجيع لمؤديها على الطريقة الغربية أيضاً, رحم الله أيام "الله عليك يا ست" التي كانت تُقال لأم كلثوم!), واللاعبون في الفرق يؤدون حركات تماثل حركات فرق أمريكية, ويعزفون على آلات غربية, ويرقصون كمايكل جاكسون حبيبهم...إلخ

وطبعاً كثير من القراء يعرفون هذا البرنامج, فلا داعي للإطالة في وصفه. لكني أستشهد به على أننا كعرب نمتلك موهبة خاصة قد لا يشاركنا فيها غيرنا, وهي موهبة طمس مواهبنا, وموهبة التعبير عن غير ذاتنا بأدوات غيرنا.

إننا لا نقلد النموذج الأمريكي, ولا الغربي, فنحن لا نعبر عن أنفسنا كما يعبرون هم عن أنفسهم, لكننا نحاكيهم, فنفعل مثل ما يفعلون دون تفكير, ولا استنكار!

صرنا نحاكيهم في لباسهم, وفي فنونهم, وفي ثقافتهم, وحتى في ألفاظهم ولغتهم وأدبهم وتصنيفاتهم, فنحن نحاكي أشكالهم وقشورهم الخارجية الظاهرة دون محاولة للنفاذ إلى تفكيرهم وقيمهم التي أنتجت هذه الثقافة وطرق العيش, ومثلنا هنا كمثل المراهق الذي يعجب بنجم ما فيحاول محاكاته في طريقة حديثه وفي تسريحة شعره وفي مظهره الخارجي فقط, دون أن يكون عنده أدنى فكرة عن أخلاقه وقيمه وثقافته.

إن الولع بمحاكاة النموذج المسيطر أنتج تصنيفات استلابية تختص بالشكل دون المضمون, فصار الشكل القريب أو المطابق للنموذج المسيطر هو المتحضر, بينما البعيد عنه رجعية وتخلف, ومن هنا غدا حجاب زوجة الرئيس المصري تخلفاً و(بلدي).

إن المتجول في بلادنا العربية يشاهد كيف غدت مظاهر حياتنا محاكاة لمظاهر الحياة الغربية, في ملبسنا ومسكننا وطرق حياتنا, لكننا مختلفون جداً عنهم في القوانين والقيم والنظم التي تحكم حياتنا, لأن المحاكاة كما قلنا تختص بالشكل دون المضمون, مما أفقدنا احترامنا لما عندنا, وحتى احترام الآخرين لنا, وأفقدنا معها القدرة على الإبداع والتطوير, والإنسان الذي يقدر نفسه ويثق بها هو ذلك الذي يعبر عن نفسه بطريقته هو لا بطرق غيره, انطلاقاً من معرفته بقدراته وبإمكاناته وثقته بها. 

 وقد ورد في الحديث عن عائشة، قالت: حكيت مشية رجل أو امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أحب أني حكيت إنساناً ولي كذا وكذا" والحديث هنا لا ينهى فقط عن المحاكاة لأنها تعبير عن احتقار للآخر, بل لأنها قبل ذلك تحقير للذات, وإلغاء للكينونة, وعلى هذا فإن رفض التبعية احترام للذات وللآخر.