أو لم يكونوا في الصبابة مولعين

إحساسات فادحة

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

تقف الحروف مكسورة على رجل واحدة تتغنى بنحيبها المكتوم في حصار طال أمده، وامتدت شباكه، ليقتلع شوكها الحبق المزروع في ذاكرة اللهيب، هكذا تبدو الجمل النثرية المدلوقة على الرمل تعاني من ضياع ذراتها بين الأشواك المتسلقة جنبات المكان، لتقول لك في كل حرف حروفا مفتوحة على جرف هار فانهارت مسمومة مسكوبة في الزمان اللامتناهي والمكان المتشكل من أعصاب الجنون. 

تبدو الهمزة متشابكة مع الألف في عدم تصنيف إملائي متشابك مربك كأنها خبرت الارتباك الخجول في هذه الحياة، لتمتد نحو باء مسلوبة ممتقعة في البوار والبؤس لتتراكم في بئر مهجورة مشقوقة ببنات الأفكار المتصدعة، وزاحفة نحو تاء التشتت والتقمص للوجع الوجودي تضرب برنة الحرف نحو ثاء الثمالة الثابتة في جموح اللغة نحو مفردات بلا معنى، يغويها الثراء المدقع من كل ما يجمل بهاءها الفاقد لمعنى الرؤيا الواضحة.

تأتيك حروف الجيم والحاء والخاء، فلا ترى فيها غير جدل على وهم مصلوب في حبق الحاء المضروب على أم رأسه ليذرك بحرف الخاء بكل ما اتصل به من خرافة وخواء وخيبة أمل متشكلة في مصفوفة لغوية عامرة بالكتابة السابحة متاهات الليل الممتد بلا نهاية.

لماذا لا ترى في الحروف غير تلك الكلمات الميتة أو التي تدل على الموت؟ لماذا لا ترى في الدال وأخواتها الذال والراء والزاي أكثر من البعد الخطي القريب، لترى الدال شبه متكورة على دوام الدهشة من ديمومة الدهر الذي يعذبك في كل رائحة من ذكرى تهب جارحة مع كل وردة تنظر إليها من شباك بيتك، أنت الذي كنت ترى في الوردة عطرا سرقه من حبات عرق من رحلوا عنك بعيدا وخلفوا لك زفرة  نافرة هي كل ما أسعفك به حرف الزاي الزائف الزاحف نحو زرافات الحنين، لتركلك برجلها كلما هبت نسائم من صبا ريح من تلقاء من رحلوا وغابوا وخلفوك ميتا أو شبيها بالميتين.

تسير سفينتك المثقوبة نحو سين السذاجة، حيث صدّقت أوهاما زرعتها على حين غفلة من سنابل حقل عطش، وشين شردتك وزرعت الشعر الأبيض على لسان الجملة الشعرية ليكون الشعر بلا شعور، خاويا من شهد كنت تحسه يدغدغ الحنين في كل خفقة من قلب، فما نفعتك الأحاسيس ولا حمتك الغواية من نفسك، فكنت الشريد المطرود من رحمة الشاهد الأخير، ولتكون الشماتة القاسية سيدة الشهود في زمن تعرف كم كان يشارف نفسك على الهلاك المحقق.

لقد صادتك صاد الصدى والردى، وصدتك وصادمتك مع قدر كنت عنه في لهو وكنت عن ألمه في غنى لو كنت من العاقلين، جرفتك ضاد الضنك الضارب في جذور قلبك ضمائر الغائب متوحدة في ضميرها الذي كان قبل دقتين من قلبك في نبض قلبك، ضمك الضيم ولفتك الضغينة المتسللة من بعض كلام ضفافه بلا ضمير، ليسبح فيك عبر مجاديف الضراوة الضاحكة في موج متلاطم آخذ في الاتساع والابتعاد في أمواج تحاربك كل صباح بما تيسر من ساقية الموت.

طموح طمرته الطاء، وظلم ظعنت به نحو نفسك حروف المعجم الميت بحرف ظائها المتشكل حجرا، لتشبع نواحا على أشلائك، في ظل ظرف ظريف من النكتة الساخرة، في ظروف المتعة المحرمة، التي لم تكن لتكتمل يوما في ثياب مرفلة لأن الوعد لم يكن ليصدق مع نفس لم تعرف إلا غريب الآمال وسيء التوقعات!! فهي لم تعتد على غير ذلك!

يتلصص عليّ حرفا العين والغين الغائمين الغائرين، وتدل علي كلمات العار والعيب والعقوق والعقاب والعراك مع شراسة الليل المدلهم، فتمطر الكلمات غيما غارقا بغياب فادح وبغرابة العشق الممتزج مع قلب اكتوى بغباء الرؤيا القاتلة، وتغلف بغشاوة العمى الصادم المخيف!!

غريبة هي اللغة، كيف لا تتسلل إلى مسمع القلم سوى الكلمات الناخرة في جرح العصب، كيف لا ترى في الفاء إلا فراشة حائمة حول الروح، تفل حدها تستهدي الموت المفضل، تنظر بفراسة البصير فتضرب على وتر الوجع الفادح لفرح فاتت فرصته، ولم يعد له فائدة، ولم يتبق من فائنا إلا فهم سقيم ملفوف بضباب كثيف يحجب دروب النجوم فيضلها، فتقع في فناء المجاهل، تندب فيء تلك الجمل التي اكتشف حاملها ومنتجها ومخزنها في ذاكرة النسيان أنها كانت فائضة عن حاجة الروح، فكيف بكلمة خرجت من قلب فناؤه فسيح مفتوح على ما لا نهاية له من تعلق القلب بالقلب، كيف بها لا تظل حية، إنها الفاء رمز الحروف المتصلبة في شرايين الحياة!!  

تقلصت القاف وكأنها عود على بدء سابقتها، متعامدة مع قرينتها الفاء، إذ يذكر وزنها ب (قاب قوسين أو أدنى) لقد كان الحلم قاب قلبين أو أدنى، ليغدو قاب قتيلين بل أدنى، بقنبلة قلبت أمانهما وهدوءهما وأحالتهما شظايا ناشرة ناجزة تنزف كقبرة مجروحة مكسورة.

لست أدري ما السر في قاف بدأت وانتهت بجارتها الفاء، لعلها الصدفة، ولكنها ليست تلك الصدفة التي تشبع الروح بوله عجيب، فما أكثر الصدف؛ نتصادف في الميلاد، ونتلاقى في اللغة، ونتجاور في الحياة، ونتصادم في الوجع، لنتكامل في رصيف القلب، ولكنها لا تتصادق مع أمل مر علينا مجرد صدفة عابرة، يا لها من أنة موجوع سئم الحروف وسئمته، وأسلمته لكاف تتشبث بالفاء ولا تريد لها مفارقتها، لتنجز وعدها بكمال اللظى وجارف كلام مسفوح، لم تعد الرسالة تحمله على طنين حنينها المسكوب رنينا أبله في ذاكرة فولاذية لا تريد أن تنسى، وإن جفت سواقيها وتحجرت لغتها، فلم تعد تكبر كاليمام أو تغرد كناراً أو بلبلا كل صباح، لتعلن بداية يومنا الجديد!!

الليل والليلك واللوح المحفوظ، لوح متعانق مع لفح الهجير الهارب من شمس اللام المخنوقة بعرق الانتظار، كلفح الهجير الهارب من أشعة حارقة في عز الظهيرة، لتتجمع في لحاء النفس، فتتقشر عن عصب اللهيب، ليكون الليل والليلك حراسك من هجير الهجر المتعاظم كل دقة روح!! فتمنيك الميم بمسامات المهد المفتوح على سماء صافية بورده المنثور على فراش لم تعد الأحلام إلا لك، ليكون مجالا لرومانسية حالمة، مغرقة في الحلم، ولذلك لم تر النور، رومانسية مقتولة قبل أن تولد، ولدت في حلم مجنون، وعاشت في حلم مجنون، ولكنها ماتت في واقع واضح فاضح كشمس النهار الفاتنة في حبات عرقها المتصببة في جبهة الوقت المسجى على صفيح الموت!

هلا نَهاك نُهاك عن لوم روحك يا فتى، روحك المجبولة بالنون الممتقعة بدم النوارس المسروقة إلى حيث العدم المنسول والمسحوب على حسك الشوك، لتكتشف الهول في هاء هرَبت وهرَّبت لك هجاء الحياة والحبق والحروف الميتة، فهام بك الهذيان الذي يأبى أن يفارقك ليسرق روحك حيث كانت؛ لتقارن وتوازن، فتصحو والوجع ناخر في عمق الروح تكاد لا تستطيع حراكا، هبلتك اللحظة الهاربة فكنت من الغاوين!!

ويْ كأنه لا يفلح الهاربون من أحلامهم، وي كأنه لا تستقيم شؤون حياتهم، وي كأنهم مع الحروف كآيات العذاب مشوّقون في أناتهم، وي كأنهم لا يعقلون!!

وي كأنهم يعترفونْ!

وي كأنهم بواوهم وبيائهم وبدالهم وبفائهم وألفهم متسامرون

وي كأنهم لا يتوبون!!

وي كأنهم عن شوقهم لا يرجعون!!

وي كأنهم في المسافة حالمون، وراكضون مولهون وسادرون!!

وي كأنهم عن غيهم وضلالهم لا ينتهون، وبحبهم وبذكر من رحلوا متأبدون لا يبرحون الشوق لا، ولسوف يعطون الشقاء المر في نبض الحنين!!

وي كأنهم روحٌ تولّه في ضمير العاشقينْ

فلعلهم كانوا، أو لم يكونوا في الصبابة مولعين!!

وي كأن العشق أعطاهم ضمير المخلصين!

لا ينتهون عن الغرام وإن رحل الهوى فهم البقاء كأنهم روح الحنين

وي كأن الله أعطاهم سلام الروح في الذكرى مع الذكرى على مدّ السنينْ!!